القسم
مواضيع تربويّة
مواضيع تربويّة
توجيهات تربوية (43) حول الأسلوب التربوي الوقائي
نقلها للعربية بتصرّف الأب السالسيّ بشير سكر
للجميع وخاصة للعائلات
مرحلة الطفولة ليست مضيعة وقت
“التريّث” كلمة غير مرغوبة في يومنا هذا.
السرعة والجري تغلغلا في عروقنا وأمسيا يسيطران علينا بتزايد مخيف.
أليس صحيحا ً أننا لم نعد نستمتع بارتشاف القهوة في سكون بجوار طاولة؟
لم نعد نجد الوقت لتذوق نكهة الحياة؛ نعمل ونأكل ونكسب ونهدر ما كسبنا بسرعة أفقدتنا تأمل جمال الخليقة وسرقت منا القدرة على حماية أنفسنا من طغيانها…
الطامة الكبرى هي أن هوس السرعة أصاب أيضا ً مفهوم التربية! كثيرون اليوم يعتقدون أن مرحلة الطفولة مضيعة للوقت؛ يعتقدون أن الطفولة مرحلة يجب تخطيها في أسرع وقت ممكن للارتقاء إلى مرحلة البلوغ فورا ً.
لن تصدقوا هذا، لكنه حدث فعلا ً: طفل في السنة الثالثة الابتدائية، تحت عبء مئات الاهتمامات التي تفوق طاقاته، حين سئل: “ماذا ستفعل عندما ستكبر؟” أجاب: “عندما سأكبر سأرتاح!”
أمر لا يصدَّق لكنه واقعي. نتوسّل إليكم، فلنعتصم بالهدوء والتريّث، أقله احتراما ً وحبا ً نحو أطفالنا!
كفانا أطفال يعانون من الضغوط النفسية، أطفال ذوي رؤوس متخمة لكنها غير متّزنة.
في الثالثة من العمر يجب أن يقرأوا، في الرابعة أن يتدربوا على الرقص، في الخامسة أن يتعلموا العزف، في السادسة أن يتقنوا الغناء، إضافةً إلى دروس اللغات وإلى تدريب الجودو وإلى تمارين الكاراتيه… ألا نلاحظ أن شيئا ًما غير طبيعي في كل ذلك؟
الخطأ في كل ذلك هو ما سبق وقلناه أي اعتقادنا أن مرحلة الطفولة هي حيز زمني عديم الفائدة في عمر الإنسان وبالتالي يجب تجاوزه.
كلا ثم كلا!!
أمور لا يقدر الأطفال على تعلمها
مرحلة الطفولة ليست مضيعة وقت.
لا بل الطفولة هي المرحلة الحاسمة من عمر الإنسان، حياتنا تعتبر حصيلة عملية جمع طويلة. في أي عملية جمع لو أخطأنا جمع الأعداد الأولى سنحمل الخطأ حتى النهاية. هكذا تماما ً: طفولة غير ناجحة تثمر حياة فاشلة.
هذا المبدأ أصبح محسوما ً على الصعيد العام. الطفل هو فعلا ً أبو الرجل. هناك مثل فارسي يقول: ” أذا زرعت عوسجا ً لا تنتظر أن تقطف ياسمينا ً”. باختصار يستحيل إلغاء الطفولة. السنوات الأولى تشبه الوعاء الثمين الذي حافظ إلى الأبد على عبير العطر الأول الذي وضع فيه. خلاصة القول لنستبعد نهائيا ً فكرة عدم جدوى الطفولة. نتيجة لذلك علينا أن نتجنب فورا ً تقليد طرازين من الوالدين: الوالدون المصابون “بعقدة موزار” والوالدون-التاكسي…
الوالدون المصابون بعقدة موزار مهووسون بموزار الذي كان طفلا ً خارقا ً راح يؤلف سمفونيات موسيقية وهو في الخامسة من العمر. بما أن موزار استطاع ذلك هكذا يستطيع ذلك ابننا أيضا ً، وبالتالي فعلى ذلك الطفل أن يتقمّص أحلام الوالدين المهووسين، أحلاما ً غالبا ً ما تفوق إمكانياته الحقيقية وبالتالي تكبّده معاناة باهظة قوامها الاكتئاب وفقدان الثقة بنفسه…
الوالدون-التاكسي هم الذين يتجولون طوال اليوم هنا وهناك لنقل وتوصيل واستعادة ولدهم من المدرسة إلى الرقص إلى السباحة إلى الدروس اللغوية أو المعلوماتية فإلى الميدان الرياضي…لا لا، هذا لا يصحّ!
لندع الطفل يعيش طفولته: ليلعب، ليركض، ليتعثّر، ليحلم، ليتفنن على طريقته، لنشبع حبه للبطاطا المقلية، ليبعثر مياه الأمطار المتجمعة، ليستمتع بفقاعات الصابون المتطايرة… طفل هو طفلٌ اليوم سيكون الفتى الفتى غدا ً وسيكون الشاب الشاب بعد ذلك والرجل الرجل في المستقبل. لو أحرقنا الطفولة ستنهار أساسات الحياة بجملتها.
جميل ما صرّحه الكاتب التشيكوسلوفاكي فرانز كافكا في عصره، قال: “دعوا المستقبل ينام. لو أيقظتموه قبل الأوان تنالون حاضرا ً يغلبه النعاس…” بالاستعجال ستجنون طفلا ً كئيبا ً اليوم ورجلا ً ضعيف الإمكانيات غدا ً. الورد الاصطناعي ينتجونه في يوم واحد فقط لكنه يظل إلى الأبد فاقد العطر…
أمور يتعلمها أطفالنا قبل الأوان
أمور كثيرة يكتشفها أطفالنا باكرا ً جدا ً.
“باكرا ً جدا ً تداهمهم مشاهد العنف، باكرا ً جدا ً تلوّثهم المشاهد الخليعة، مازالوا في الثالثة من العمر أو أكثر قليلا ً ويتسلسل أمام أعينهم كل شيء. في ذهنهم يتخزّن كل شيء: مشاهد الأزقة الموبوءة، الحوادث المرورية، تشوّهات ذوي العاهات… ما تحفل به الحياة من المآسي إلى جانب فواجع الموت المبكّر…”
هذا ما قالته عالمة النفس آنا ماريا باتيستين. ما رأينا أمام كل ذلك؟
هل يعقل أن يتفرج الصغار على كل هذا الرعب؟
هناك من يقول: اليوم لا يُستحسَن إخفاء شيء على أولادنا لا جسديا ً ولا نفسيا ً. لكن الواقع أن جرحا ً بليغا ً تتركه المشاهد الصادمة على مستوى شعور واحساس الصغار.
البروفيسور روبرتو أوسيتشيني من جامعة روما، المهتم من عشرات السنين بصحة الأطفال العقلية يقول: “لدينا اليوم أطفال متطوّرون على المستوى الفكري والتواصلي لكنهم غير ناضجين، وبشكل صارخ، على المستوى العاطفي… أطفال معرّضون لسيطرة عادات ذميمة، للاكتئاب، لأمراض نفسية …كلها ظاهرات لم تكن واردة يوما ً في مرحلة الطفولة.” لم تكن واردة لأن الطفل كان طفلا ً، كان يعيش طفولته على سجيّته.