التوجيه الرسولي لعام ٢٠٠٢
تقدّم إلى عرض البحر
تقدّم إلى عرض البحر
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب خوان فيكّي إدموندو نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
حيث الآفاق الواسعة والمياه العميقة
يأتي التوجيه الرسولي لعام 2002 في سياق يوبيل الألفين الذي أدخل إلى الكنيسة في الألفية الجديدة، ويلبّي تحديدا دعوة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المؤمنين بأن يتقدّموا إلى العمق للصيد، كما فعل بطرس ورفاقه حين ألقوا شباكهم واثقين بكلام يسوع، فأصابوا من السمك شيئا كثيرا (لو5/6).
هذه الدعوة يوجّهها البابا في مطلع وفي ختام رسالته الرسولية “نحو الألفية الجديدة” (مطلع الألفية الجديدة)، الصادرة في 6/1/2001، أي في اليوم الختامي لليوبيل، وأراد بها أن يقيّم بها هذا الحدث الكنسي المهمّ، تشجيعا لمواجهة المستقبل باندفاع مجدّد، أساسه إيمان راسخ ورجاء وطيد.
فالدعوة إلى الانطلاق إلى عُرض البحر لا تعني الدعوة إلى القيام برحلة سياحية للاستجمام والراحة، بل الدعوة إلى خوض معركة شاقّة ومتعبة تشبه صيد السمك. فالصيادون يتعبون أحيانا ليلة كاملة ولا يصيبون شيئا، كما قال بطرس ليسوع.
الفرق هنا أن إلقاء الشباك لا يتمّ بمبادرة بشرية، بل بمبادرة إلهية، كما قال بطرس: “أُرسل الشباك بناءً على قولك” (لو5/5)، وهذا ما يفسّر كل سيء: مفهوم الصيد، تعب الصيادين وقيمة النتيجة.
العائلة السالسية تعمل في الكنيسة ومع الكنيسة، فلذلك لا بدّ لها أن تشعر مع الكنيسة، على أن يتميز عملها، أو بالأحرى رسالتها، بموهبتها الخاصة، أي الموهبة السالسية. نحن إذن مدعوون إلى الأمل في كلمة يسوع إلى بطرس من منظار سالزياني، وهذا ما يقصده دون فيكّي. بالخلاصة: ماذا يعني بالنسبة إلينا التوجّه إلى عُرض البحر حيث الآفاق الواسعة والمياه العميقة؟
1- الصيد العجائبي في إنجيل لوقا
يخبرنا إنجيل متى ومرقس ن يسوع، لما بدأ يبشّر بالملكوت، دعا بعض التلاميذ، وكانوا صيّادين، ليرافقوه ويشاركوه في الرسالة. لوقا يغيّر ترتيب الأحداث ويُدخل دعوة التلاميذ في إطار رمزي أقوى أعمق، وهو الصيد العجائبي، وكأنه يدعوهم إلى المشاركة الفورية في النجاح وييسّر لهم إدراك مفهوم الرسالة. التلاميذ مدعوون إلى مواصلة رسالة المعلّم والعمل معه وباسمه، فالنتيجة مؤكّدة. الصيد العجائبي يرمز في إنجيل لوقا إلى نشاط بطرس والكنيسة. قبل الصيد العجائبي كان يسوع يعمل شخصيا بشكل مباشر، أما بعد الصيد العجائبي فيعمل من خلال الذين يسمعون كلامه ويعملون به، كما فعل بطرس ورفاقه. يبدو أن يسوع يرسل تلاميذه إلى مياه خالية من السمك، ولكن صوته لا يترك مجالا للشك: “تقدّم إلى عُرض البحر”. كلامه أمر يضمن النتيجة مُسبقا.
كان لوقا، عند كتابة الإنجيل، يفكّر بلا شكّ في صيد الكنيسة الناشئة، كما ورد في مطلع “أعمال الرسل” حيث يرسم لوحة الجماعة المسيحية الأولى وهي تنمو وتزداد يوما بعد يوم بالاستماع إلى كلام بطرس والرسل الآخرين. وكأن كلامهم يتمتع بفاعلية كلام يسوع.
ما يريد لوقا أن يعلمنا هو الآتي:
– التلميذ هو رسول يسوع، وبالتالي يجب عليه إحياء وعيه للرسالة.
– الرسالة تبدو دائما وكأنها غير مجدية، وثمارها، إن وجدت، لا تقف على التوقّعات الاجتماعية والنفسانية، بل على قوة وصية المسيح وعلى حضور روحه الدائم.
– دور الرسول أن يواصلوا رسالة المعلّم الخلاصية بمقاومة الشر ومساعدة المحتاجين.
– بدون أن ينسوا أن نتيجة الصيد الكاملة سوف تتمّ وتظهر في الحياة الأبدية، ولو هنالك مؤشّرات تدلّ على أن بعض الثمار قد تُقطَف في هذه الدنيا.
2- الآفاق الواسعة المنفتحة أمام الرسالة السالسية
دعوة يسوع، كما يكررها اليوم الحبر الأعظم والرئيس العام، تصل إلينا، أعضاء العائلة السالسية، كما وصلت إلى دون بوسكو وحرّكت ضميره في الظروف التي كان يعيش فيها. منذ حُلمه الأول في التاسعة من عمره والاستماع إلى قول السدة الجليلة: “هو ذا المكان الذي عليك أن تعمل فيه، كن متواضعا، شجاعا، قويا”، أدرك أن عُرض البحر الذي يطلب الربّ منه أن يتقدّم إليه هو عالم الشباب. أخذ يكتشف بؤس الضاحية وقد تحوّلت إلى بُقعة غليان وتمرّد وعنف، فالمراهقون مشرّدون في الشوارع، لا عمل لهم، فاسدو الأخلاق، مستعدّون لأسوأ الأفعال. الأطفال معروضون في “سوق الأذرع الفتية” ولجميع أنواع الاستغلال… فقرّر: “أريد أن أكون مُنقذ هذه الشبيبة”. فبينما كان كهنة آخرون ينتظرون الشباب في الكنائس ويأسفون على حالتهم التعيسة، اكتشف دون بوسكو خططا جديدة وسلك طرقا لم يسلكها آخرون من قبل. أخرج الرسالة من الكنائس وأدخلها إلى الشارع، مجرّبا رسالة متنقلة بين الحوانيت والمعامل والأسواق، وكانت فعلا رسالة من نوع جديد.
ما قام به دون بوسكو في تورينو، أراده لشبيبة العالم بأسره وحقق هذا الحلم بإرسال أبنائه إلى البلاد البعيدة. لم يكن عنده خطة جاهزة، مع أنه كان يفكّر ويحلم في رسالة بكل معنى الكلمة. فحين رأى الفرصة سانحة، خضع لإلهامات الروح والظروف، وكأن هذه المغامرة أتت تطبيقا لقول يسوع: “تقدّم إلى عُرض البحر”. فالمرسلون الذين قطعوا المحيط للمرّة الأولى كانوا على يقين أنهم أدوات العناية الإلهية في رسالتهم الجديدة وكان دون بوسكو قد ذكّر لهم ذلك لمّا ودّعهم وقال: “إننا نبدأ عملا عظيما، لا لأننا نظنّ أننا سنهدي العالم بآسره في بضعة أيام، ولكن من يدري ما سيكون هذا الذهاب. فلربما تُخرج هذه الحبة الصغيرة شجرة كبيرة! من يدري؟ فقد تكون تلك الحبة الذرّة الصغيرة أو حبّة الخردل التي تنمّي وتُخرج خيرا عظيما”. في تلك الأيام كان الجوّ في فالدوكو متحمّسا للغاية. فالمقيمون ينظرون إلى الذاهبين نظرهم إلى أبطال كرام يثبون بجرأة إلى لقاء المجهول ويعتبرونهم ممثّلين عنهم، وكأن جماعة فالدوكّو انفتحت في تلك الأيام على العالم بأسره وكأن الرسالة السالسية أخذت بالفعل بعدا عالميا.
3- المفهوم السالسي للانفتاح على العالم وبعض المواقف التطبيقية
العالم هو مكان الرسالة السالزيانية لأنها ترمي إلى تغييره ليكون أكثر عدالة وأكثر أخوّة من خلال التربية. ولكن، إذا حصل خلل في ممارسة الرسالة لسبب من الأسباب، فالعالم لا يتغير. لا يخفي علينا أن العالم الذي نسعى إلى تغييره بنعمة الروح القدس وبأسلوب دون بوسكو، فيه خير وشر. وجودنا فيه، كمكرّسين أو كعلمانيين ملتزمين، يدل على أن هنالك قيما يجدر بنا أن نعيش من أجلها وندافع عنها. فأمام المادية والأنانية وعبادة التسلّط والتظاهر واللذّة، نشهد أن الله موجود وأن حبّه يستطيع أن يملأ حياتنا، بشرط أن نعيش دعوتنا بجدّية: الرهبان والراهبات من خلال النذور والمعاونون من خلال الوعد. قال يسوع عن تلاميذه أنهم “ليسوا من العالم” مع أنهم في العالم، لذلك لا يصلّي ليُخرجهم الله من العالم، بل ليحفظهم من الشرير (راجع يو17/14-15). فهذه هي حالتنا: نؤمن أن يسوع هو الذي يُضفي على حياتنا معنى جديدا مع أننا لا نزال في العالم ونشارك مصيره، لأنه يساعد على اكتشاف حضور الله في الذين نلتقيهم على درب العالم، ولا سيما الشباب. وأكثر من ذلك، نحن نرفض أن ننفصل عن العالم، بل نريد أن نتضامن مع حاجاته ونريد أن نعي مشكلاته. نحن متأكّدون أن الروح القدس يعمل في العالم، فدورنا هو أن ندرك علامات هذا الحضور ونجعلها بارزة وفاعلة من خلال التزامنا لكي ينتشر ملكوت الله ويترسّخ أكثر فأكثر.
ولكن العالم هو أيضا مكان الشرّ، الظاهر ليس فقط في الخطايا الفردية، بل في البُنى الاجتماعية أيضا. هنالك خطايا اجتماعية تهدّد بفاء العالم ومصير البشر. فقداسة البابا يلفت انتباهنا إلى ما سببته هذه الخطايا من أوضاع مأسويّة يسميها “تحدّيات”، فهي لا تقبل أن نظلّ مكتوفي الأيدي، بل تقتضي تحرّكا سريعا حسب مسؤوليات كل واحد.
هذه التحديات هي:
1) إمكانية كارثة بيئية تجعل أماكن واسعة في الكرة الأرضية غير صالحة للسكن ومُضِرّة بالإنسان
2) قضية السلام المهدّد دائما، مع التخوّف من حروب قد تصبح كوارث
3) احتقار حقوق الإنسان الأساسية بالنسبة إلى العديد من الأشخاص وبخاصة الأطفال
4)عدم احترام حياة كل كائن بشري منذ الحبل به حتى نهايته الطبيعية (رسالة “نحو الألفية الجديد”(2001) عد 51).
يجوز لنا أن نُضيف، تمشّيا مع البابا في رسالته ليوم السلام العالمي لعام2002: الإرهاب العالمي وعواقبه. كما نضيف أيضا: انعكاسات هذه الأوضاع على مجتمعاتنا في بلدان الشرق الأوسط، كل منها في واقع حالته الخاصة، مثلا في لبنان مسألة العيش المشترك، وقد كان موضوع الاجتماع الأخير لمجلس البطاركة والأساقفة منذ بضعة أسابيع.
تحدّيات العالم إذن تستوجبنا بشكل عام، والتحدّيات عينها التي نواجهها في بلادنا تستوجبنا بشكل خاص وبإلحاح لأنها يومية ومستمرة. فيمكننا أمامها الاستفادة من توجيهات قداسة البابا في نفس الرسالة وتطبيقها في مجتمعنا. يقول قداسته: “لكي تكون الشهادة المسيحية فعّالة (…)، من المهمّ أن نبذل جهدا كبيرا لكي نشرح، بطريقة مناسبة، موقف الكنيسة (…). ليس المطلوب فرض نظرة إيمانية على غير المؤمنين، بل المطلوب شرح القيم الأساسية (…) والدفاع عنها. فعندئذ تصبح المحبة بالضرورة خدمة الثقافة والسياسة والاقتصاد والعائلة لكي تحترم في كل مكان المبادئ الأساسية التي عليها ترتكز مصائر البشر ومستقبل الحضارة”. (المرجع عينه، عد51).
“من الواضح أن كل هذا يجب أن يتحقّق بأسلوب ذي طابع مسيحي خاص: يجب أن يقوم العلمانيون بهذه المهمات لكي يحقّقوا دعوتهم الخاصة من دون أن يقعوا في تجربة تحويل الجماعات المسيحية إلى خدمات اجتماعية (…)”. لذلك يدعو إلى تطبيق تعليم الكنيسة الاجتماعي وبالوقت نفسه إلى رفض الروحانيات الحميمة والفردية التي لا تنسجم مع متطلّبات المحبة ومتطلبات التجسّد، لأنها تهرب من الالتزام الملموس (راجع المرجع عينه، عد52).
لا يصعب علينا، أبناء وبنات دون بوسكو، الانسجام مع هذه التوجيهات البابوية، لأن روحانيتنا الكنسية والتي كان دون بوسكو بارزا فيها، وهي التفاؤل والحماس، الجرأة والشجاعة، الكفاءة القيادية والواقعية.
أ) التفاؤل: ليس دون بوسكو من أولئك الذين يندبون على ويلات العصر أو على ما فات. إنه من الذين يقاومون الشرّ بالخير وكلما زاد الشر يزيدون من الخير. ينظر إلى البعيد، فيعلم أن المستقبل، مهما كان، هو للأجيال الطالعة. دون بوسكو صورة حية للإنسان المتفائل. فما هو التفاؤل؟ بعض القواميس يحدّده كالآتي: “طريقة ذهنية تهيئ لرؤية الأمور من الوجهة الحسنة، وميل إلى رؤية كل شيء خيرا والوجود جميلا” (المنجد في اللغة العربية المعاصرة). على أساس هذا التحديد، هل نحن متفائلون أم متفائلون نوعا ما؟ التفاؤل يخصّ الأشخاص وليس الأمور، لذلك لا يعني أن الأمور تجري على ما يرام أو أن ليس هنالك مشاكل. إنه موقف الإنسان من الأمور ومن الأشخاص ومن المشاكل، موقف ينبع من الثقة أو الأمل أننا قادرون على تخطّي الصعوبات ومواجهة المستقبل من جهة، ومن جهة أخرى يهيئ الإنسان لإقامة علاقات معينة مع ذاته ومع الآخرين. المتفائل عكس المتشائم، أي الإنسان الذي عنده نظرة سلبية عن الناس، عن العالم وأحيانا عن نفسه أيضا ولسوء الحظّ، عنده قدرة هائلة على التأثير سلبا على الآخرين. بالمقارنة مع المتشائم، يظهر المتفائل وكأنه على جانب كبير من السذاجة. ليس لديه أفكار خلفية أو نوايا غامضة. يثق بالناس ويجازف، يعرف ضعفهم ويرى الشر، إن وجد، ولكن لا يتوقّف عند العقبات. يعتمد على الإيجابيات الموجودة في كل إنسان ويسعى إلى إيقاظها أو إحيائها. ينتبه إلى الأشخاص ويعطيهم من وقته. يراقبهم ليس ليكشف أخطائهم، بل ليجد في كل منهم شيئا إيجابيا يستحق استثمارها. وخير دليل على تفاؤل دون بوسكو قوله الشهير: “في قلب كل شاب، وإن لفّه الشقاء، وتر يرنّ للخير. فأولى واجبات المربي أن يكتشف هذا الوتر ويعزف عليه” (أقوال وحكم للقديس يوحنا بوسكو، ص23).
ب) الحماس: المتحمّس إنسان يحلم باستمرار، خلاّق في أفكاره، واضع مشاريع واستراتيجيات، صاحب منهجية في التنفيذ، يؤثّر على الآخرين بأحلامه. ليس بأعمى وغير واعٍ. يعلم بأن أمامه صعوبات وعقبات وأن أغلب المبادرات تفشل، ولكن لا يستسلم. يبدأ من جديد ويتجدّد. أفكاره كثيرة ويبحث دائما عن طرق بديلة وجديدة. يستفيد من كل الإمكانيات المتاحة له. يعرف الضعف الموجود في الإنسان وحتى الشرّ. قد يتعرّض لخيبة أمل، ولكن يصبو إلى الخير ويعتمد عليه. يحرّك الآخرين بدعوتهم إلى الإبداع وإلى العطاء بسخاء ليكونوا أحسن مما هم عليه، وبهذه الطريقة يفجّر طاقاتهم ويساعدهم على النموّ، ويشهد لهم أن العمل باندفاع وتفاؤل وسخاء يجعل المستحيل ممكنا…كما فعل دون بوسكو.
ج) الجرأة والشجاعة: دون بوسكو إنسان ينطلق دائما إلى الأبعد. كان يقول: “فيما يعود بالخير على الشباب في خطر، أو فيما يخدم خلاص النفوس، أنا في الطليعة بجسارة” (ذكريات السيرة14، ص162). لم يخف المجهول ولا الجديد وهو صورة حيّة للصيد العجائبي، إذا صدّقنا ما قاله: “في عصرنا هذا، ونحن نرى السلطات المدنية تُلغي الرهبانيات، حتى إن الراهبات لا يرتَحنَ في أديرتهن والرهبان اختفوا عن الأنظار، نحن (السالزيان) نجتمع ونخدع أعداءنا، إذ نزداد عددا ونؤسّس مراكز ونعمل ما نستطيع من الخير… لم تعد القوانين تتحمّل الرهبان، فنحن نبدّل ثيابنا ونلبس كالكهنة الأبرشيين. هل لا يتحمّلون ثوب الكاهن الأبرشي؟ ذلك لا يهمّنا. سنلبس لباس المدنيين ولا نزال نعمل الخير. إذا كان ضروريا، فسوف نربي الذقن، لأن ذلك لا يحول دون قيامنا بالخير” (ذكريات السيرة10، ص1058). في جميع الظروف، قام دون بوسكو بشجاعة بما رآه مناسبا، بدون أن ينتظر تحسّن الأوضاع، لو انتظر تحسّنا ما أو تغيّرا، لما كنا نحن هنا اليوم…
د) الكفاءة القيادية: تظهر هذه الكفاءة في إقناع الآخرين أنهم يشاركون في عمل مهم، له قيمة غالية ويستحقّ التضحية. فالذين يشاركون في مثل هذه الاختبارات يفتخرون ويضحّون بسخاء. ولكن أن يكون القائد مقتنعا كل الاقتناع قبل الآخرين. كل مشروع إنساني مهمّ وراءه إلهام. فإذا غاب الإلهام، لا أحد يعطيه لنفسه بقوة الإرادة أو أن يتظاهر أنه عنده. القائد الملهم يشعر بأنه في خدمة قضية أو رسالة أهمّ من شخصه، لا يضرب ولا يقلق، بل يحفظ صفاء صادق ويزرع في قلوب معاونيه نفس الثقة والصفاء. ويقوم يقوم بذلك بقدوته، لأنه يشعّ الحزم والتهيّؤ والعطاء والتفاني. هذا هو موقف بطرس ورفاقه في الصيد العجائبي، وهذا هو موقف دون بوسكو مع معاونيه. لم يكن يبخل بالثناء لمن يستحقّ الثناء وثناؤه تعبير عن عرفانه للجميل. لما نقول لأحد: “برافو!”، نقرّ بفضله، نعترف بأنه قام بشيء جيد وبأنه ساهم في المشروع مساهمة في المشروع مساهمة إيجابية.
ه) الواقعية: هي إعطاء الواقع الاعتبار اللازم. كان دون بوسكو حالما بالنسبة إلى المستقبل وواقعيا بالنسبة إلى الحاضر. في عصر اضطرا بات ثقافية واجتماعية وسياسية، حافظ على توازن الفكر والمسلك. سعى بدقة لفهم “علامات الأزمنة” والحاجات الملحّة وللإصغاء من خلالها إلى صوت الربّ الداعي إلى مزيد من الالتزام من أجل الملكوت. كان يقول: “انطلقتُ دائما حسب إلهامات الرب وحاجات الظروف” (ذكريات السيرة18، ص127). يعني ذلك أن دون بوسكو تمشّى مع الحياة وحركتها أكثر منه مع القوانين والهيكليات، لأنها كثيرا ما تكون جامدة. الاحتكاك مع الواقع يُفهمنا أن الأشخاص والبيئات تتطوّر وتتغير، خاصة مع تتابع الأجيال وفي عالم الشباب. لذلك لا يجوز أن نبقى جامدين مرونة التصرف وحدها تسمح لنا بتحقيق إنجازات جديدة. لو أصرّ بطرس على قناعته أن حالة البحر لم تتغير، لما اصطاد ولا سمكة واحدة. ولكنه آمن بأن يسوع غيّر الوضع: ألقى الشبكة فأصبح رابحا. كذلك فعل دون بوسكو، وهذا هو درسه الكبير لنا.
4) التقدم إلى العمق دعوة إلى التجذّر في روحانية أصيلة وعميقة
علّم يسوع بطرس والرسل أن حصيلة الصيد موجودة في المياه العميقة، وهذا ما يفسّر حياة دون بوسكو أيضا، إنه إنسان غني بالمواهب. كاهن في رسالته، مُربٍّ ماهر، ولكن ما يُضفي على كل ذلك قيمته الحقيقية أنه قديس. القداسة هي محكّ ومقياس إنجازاته في جميع المجلات. دون بوسكو “خبير الحياة” قبل أن يكون “أمير التربية”. كان يعيش وكأنه يرى ما لا يُرى (عب،11/27)، قناعة منه، بقوة الإيمان، أن المسيرة تستمرّ وتكتمل في الأشخاص والأحداث والتاريخ، وأن حضور الله في حياة الإنسان ليس حضور ضيف يأتي ويذهب، بل حضور مشاركة، يشمل الحياة بكل أطرافها ليرفعها ويشاركها الحياة الإلهية بالذات. كان يعيش وكأنه يرى الله، غاية حياته، وبعد أن اكتشف وحدّد دور الله فيها، اكتشف دوره الخاص وحدّده بالنسبة إلى الذين يرسله الرب إليهم: “لقد أرسلني الله من أجل الشباب، لذلك ينبغي لي أن أتخلّى عمّا يبعدني عنهم” (ذكريات السيرة 7، ص291).
هذه هي الطريقة السالسية لاختبار الله عبر ممارسة الرسالة، وهي طريقة لا تكتفي بالترفرف على سطح الأمور، بل تغوص في العمق. فالتقدّم إلى العمق في حياتنا يجب أن يتحلّى ببُعدين أساسيين: المعرفة والعمق الروحي.
أ) المعرفة: كيف نحدّد معرفتنا الأساسية؟ المعرفة هي ما تكون في أذهاننا من مفهوم للأشياء ومن إدراك للأمور. على سبيل المثال: معرفة الخير والشر هي التمييز بين ما هو ضار وما هو نافع. فالمعرفة هي التي تؤهّلنا لان نرى العالم والحياة رؤية معينة. الرؤية قد تكون ضيقة أو واسعة، سطحية أو عميقة، وكلما تكون الرؤية أوسع وأعمق، الذهن يتفتّح، وحتى الحواسّ ترهف، ومع الحواسّ يرهف الحس والذوق. من أحسن ما يقال في إنسان إنه رهيف، أي رقيق. هذه الصفات ليست ثمرة الارتجال، بل تُكتَسب بالتدرّب والتمرّس الطويل، وهذا يقع في أغلب الأحيان على المبادرة والمسؤولية الشخصية. معلوماتنا قد تكون واسعة، ولكن غير كافية لتؤمن لنا المعرفة، وبخاصة اليوم حيث نستقيها من الجرائد والمجلات والراديو والتلفزيون. طبعا نتعلّم أمور كثيرة ومفيدة، لدينا آراء… ولكن يمكننا الاستمرار على هذا المنوال 20 سنة ولا نتقدّم شبرا واحدا في قدرة التفهّم والتفكير. نحن اليوم تحت قصف الصور والأفكار المبعثرة التي تتراكم هَوشا بَوشا ولا ندري كيف نرتّبها ونصنّفها. لذلك نخضع لجميع أنواع الموضة وكأننا في مهبّ الرياح وتصبح أفكارنا واختباراتنا فوضوية، التركيز والعمق في المعرفة يساعداننا على اكتشاف وتفعيل قدراتنا… ولا ننسى أن الحصول على المعرفة كان طلب الشخص الوقور للطفل يوحنا في حلمه العجائبي وهو في التاسعة من عمره.
ب) العمق الروحي: هو البُعد الأساسي في كل حياة ترتكز على الإيمان. بطرس والرسل آمنوا بكلام يسوع وألقوا الشبكة في العمق. يعني ذلك أن العمق وحده يؤمّن النتيجة. فما هو معنى العمق الروحي في حياتنا السالزيانية وفي رسالتنا؟ العمق هو عكس السطحية: لما نتكلّم ع إنسان سطحي نفهم توّا أنه غير جدّي في كلامه وأفعاله وأنه يفضّل المظاهر الخارجية على الجوهر. قد يفكّر البعض أن رسالة دون بوسكو، لأنها تتجسّد في مشاريع منظورة وفي نشاطات خارجية، تكتفي بالنتائج الملموسة، مثل الحيوية والحركة والضجيج… ويشدّد على العائلة السالسية هي عائلة رسولية وليست تأمّلية. هذا صحيح، ولكن غير كامل وغير كافٍ، لأن عائلة دون بوسكو، قبل أن تكون عائلة رسولية، هي عائلة روحية تقوم على عدد من المبادئ الروحية التي تشكّل القاعدة الثابتة لممارساتها الرسولية. بدون هذه المبادئ تفقد معناها ولا تحقّق أهدافها. لو لم يكن دون بوسكو قديسا، لكانت العائلة السالسية مجموعة من الجمعيات الخيرية، لا غير.
ولكنه أراد أكثر من ذلك لما حدّد رسالتها وأسلوب العمل. قيل عنه إنه “السالك أمام الله”. فالسالزياني، مكرّسا كان أو علمانيا، إذا نسي هويته، ولو عمل أو فكّر أنه يعمل خيرا كثيرا. يقول القديس أوغسطينوس في مثل هؤلاء: “يركضون جيدا ولكن خارج الخطّ”. نحن السالزيان، المكرّسين والعلمانيين، رجال ونساء عمل ونشاط، ولكن جذور عملنا ونشاطنا تتجذّر في الحياة الباطنية وفي الاتحاد بالله، فبدون ذلك، حباتنا خالية من البعد السالزياني الصحيح. نظام الحياة الرسولية للمعاونين يلخّص جيدا هذه المتطلبات لجميع أعضاء العائلة السالسية في المادة30، البند1-2: 1) “كان دون بوسكو رجلا عمليا مِقداما، يعمل دون كلل وبروح خلاّقة، تحرّكه حياة باطنية عميقة ودافقة. فالمعاون، المقتنع بقيمة العمل، يثبّته باتحاده بالله ويقوم بمهماته بعزم وغيرة، فيغدو دوما جاهزا للخدمة والعطاء. 2) لأنه متنبه للواقع ولعلامات الأزمنة، فهو يملك حسّا واقعيا، يحسن استشفاف تصاميم الرب بأن يبادر إلى إيجاد جواب لكل طارئ، مع الاستعداد الدائم لإعادة النظر في عمله وتكييفه مع المستجدات”.
لاحظتم، بلا شك، أن “الحياة الباطنية” تأتي في المرتبة الأولى، ويعني ذلك أنها حاجة ملحّة، بل شرط أساسي لأي حياة مسيحية حقّة تبتغي العمق، لأنها تُدخلنا في سرّ قداسة الله اتحادنا بالمسيح وبسكنى الروح. “لا معنى- يقول قداسة البابا- أن نكتفي بحياة باهتة نعيشها تحت راية أدبيات الحدّ الأدنى وتدّين سطحي” (نحو الألف الجديدة، عد30)، بل “لقد حان الوقت لكي نعرض من جديد على الجميع، وبكل اقتناع، هذا المقام الرفيع وسط الحياة البشرية العادية” (المرجع عينه). لذلك يدعو إلى إدخال “التربية على القداسة” و”التربية على الصلاة” في المناهج الرعوية الكنسية على صعيد الأبرشيات والرعايا والجمعيات.
دعوة قداسة البابا ليست بغريبة على مسامعنا، لأنها على خطّ دون بوسكو بالذات ولأن التوجيهات التي نتلقّاها باستمرار من المسؤولين في العائلة السالسية على جميع المستويات تُصَبّ في نفس الخانة. بقدر ما نُبعد عنا السطحية الروحية، نعمل لاستيعاب حياة باطنية حقيقة تتأسّس عليها حياتنا الرسولية. لا رسالة بدون حياة باطنية ولا حياة باطنية حقيقية بدون صلاة. وأستشهد هنا بكلمة البابا في هذا الصدد، عن المسيحيين العاديين: “إزاء التجارب العديدة التي يفرضها عالم اليوم على الإيمان، يصبحون ليس فقط مسيحيين دون المتوسّط، بل “مسيحيين في خطر”. إنهم معرّضون لخطر خبيث في ضعف إيمانهم” (المرجع عينه، عد34).
الخاتمة
التوجيه الرسولي لهذه السنة يدعو مجموعات العائلة السالسية، كل واحدة منها دعوتها الخاصة، إلى مكافحة السطحية: في الحياة الخاصة والجماعية، في برمجة الرسالة وتنفيذها، لأنها، أكثر من أي وقت مضى، مدعوة إلى تجديد روحي وإلى التركيز على إتباع يسوع المسيح حتى في القيام بالنشاطات الخارجية. الخطر الذي يهدّدنا جميعا أن نركّز على عمل الأيدي أكثر من التركيز على حيوية القلب. العمل والنشاط والرسالة قد تتحوّل إلى فخّ يحذّرنا منه دون بوسكو، “السالك أمام الله”، بل “الاتحاد بالله بالذات”.
مع أننا ننتسب إلى جمعيات رسولية ونعيش “روحانية العمل والرسالة”، لا نُهمل نوعية وأولوية الصلاة والحياة الروحية، الفردية والعائلية والجماعية، حفاظا على هويتنا الحقيقة، أي على أمانتنا لدون بوسكو. التحمّس له هو التحمّس لكل ما قام به وعلّمنا إياه، وليس فقط للمظاهر البراقة الخادعة. مريم، أَمَة الرب وأمّ المعونة، ترافقنا وتذكّرنا أننا عمّالا في كرمة الربّ وليس أصحاب دكاكين خاصة. شروط العمل فيها من وضع إلهي وليس من وضع بشري…
بهذه الأفكار والمشاعر والمقاصد ندخل في العام الجديد، مصمّمين على التقدّم إلى العُمق بفرح واندفاع، واثقين أن الصيد الغزير مؤمّن طالما كنّا مع الرب ومع دون بوسكو.