التوجيه الرسولي ٢٠٠٥
تجديد وجه الكنيسة، أمّ إيماننا
تجديد وجه الكنيسة، أمّ إيماننا
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب باسكوال تشافيز نقلها إلى العربية الأب فيتّوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
أيّها الشباب الأعزّاء،
إنّ ما غمرني من حماس خلال العام المنصرم لدى تذكار القدّيسين الشباب المنتسبين إلى عائلتنا الروحية ولدى مرور رفات القديس دومنيك سافيو في عدد كبير من المراكز السالسية في إيطاليا، لا تزال أصداؤه حيّة في داخلي. والقداسة، بمثابة نار تنتشر، قد أجّجت في كل واحد منكم الفرح والالتزام النابعَين من حياة تجري بقيادة الروح القدس.
لا تزال عجائب الله قائمة في عصرنا الحاضر والروح القدس هو المُخرِج الكبير لعمليّة تكوين الإنسان الجديد على مقياس الإنسان الكامل، يسوع المسيح. فقدرة الروح تسمح لنا بأن نكون شهودا مقتنعين ليسوع وأن نتكرّس لرسالة إعلان البُشرى بحماس الكنيسة الناشئة ونضارتها، على غرار الجماعات المسيحية الأولى التي واجهت مجتمعا وثقافة وَثَنيّين، لا بقوّة السلطة أو الحُظوة، بل بقوة حياة تتمشّى مع الإنجيل الذي كانت تبشّر به، وبديناميّة خبرتها العميقة والدافقة لحضور يسوع القائم من بين الأموات.
لمواصلة هذه المسيرة الجذّابة، أدعوكم لأن يكون نُصب أعينكم والتزامكم خلال هذا العام الجديد التوجيه التالي: “تجديد وجه الكنيسة، أمّ إيماننا”.
لا تعني الكلمة “تجديد” القيام بعمليّة تجميل فحسب، من خلال إدخال بعض التغييرات الخارجية الملائمة، تمشّيا مع عادات عصرنا أو مع ما هو رائج في أيامنا لتكون الكنيسة أكثر جذبا وأشبه بالمؤسّسات الاجتماعية الأخرى. إنّما التجديد قائم على إعادة الكنيسة إلى جذورها وإلى شبابها لتستعيد المصداقيّة وثقة الإصغاء إليها، وكذلك لكي تصبح بيتا للشباب. وبالفعل، سيظهر وجه الكنيسة فتيّا إذا اجتمع الشباب في حضنها، خاصة في أيامنا، حيث يتنامى عدد الذين يبتعدون عنها في بعض مناطق العالم.
أجل، أيّها الشباب الأعزّاء، أنتم وجه الكنيسة الفتيّ. فأنتم هديّة للكنيسة والكنيسة هديّة لكم، وذلك هو ثمرة العنصرة الجديدة. فهذه الهديّة المتبادلة والمحمِّسة تدعوكم إلى الالتزام بأن تتجذّر طاقاتكم في الكنيسة وتحبّوها كما ” أحبّها المسيح وبذل نفسه من أجلها”.
قد يحصل أن بعض الأمور المتعلّقة بوجه الكنيسة البشري تخيّب آمالكم وتشعرون أحيانا بسوء الفهم لكم. قد تنزعجون ممّا في الكنيسة من عظمة وشكليّة وأمور إدارية وما إلى ذلك، وممّا فيها أيضا من ضعف وخوف وصمت، حتّى لدى بعض الرعاة. فأنتم قلقون، نوعا ما، على وجه الكنيسة، لأنّكم تُدركون أنّها لكم، وكأنّها البيت الذي أنتم ساكنون فيه والأمّ التي تحبّونها. إنّها لكم موضع لقائكم بإله ربّنا يسوع المسيح، وبالمؤمنين به، وبجميع الذين، رجالا ونساء، تعُدّونهم إخوةً وأخوات لكم.
شغلكم الشاغل أن تجعلوا من الكنيسة، من خلال التزامكم، جماعة تتجدّد أكثر فأكثر بنفحة الروح الذي يُحييها ويجدّد كلّ شيء؛ جماعةً تشهد لإنجيل يسوع وتبشّر به بلا خوف، بتماسُك حياتها الإنجيلية؛ جماعةً منفتحة تستقبل الجميع، ولاسيّما الفقراء؛ جماعةً تحتفل بفرح وامتنان بحضور الخلاص الذي أتى به يسوع، وهو يتحقق اليوم في ظروف حياتنا العاديّة؛ جماعةً تعيش شغَفها بالحياة والحرية والعدالة والسلام والتضامُن؛ جماعةً هي خميرة رجاء لمجتمع يليق بالإنسان.
فأنتم، أيّها الشباب، عليكم أن تعملوا لتصبح الكنيسة كنيسةً تحيا فيما بين بيوت الناس، بل، كما كان يتمنّى دون بوسكو، كنيسةً هي بيت يحتضن عائلة حقيقية للشباب، بيت الذين يؤمنون بيسوع القائم من بين الأموات ويريدون أن يشهدوا بفرح للإيمان به.
هذا الهدف هو الذي حدّدتموه أنتم بأنفسكم كخطّة مستقبلية أثناء لقائكم كشبيبة دون بوسكو عام 2000، إذ قرّرتم “أن تجعلوا حضوركم ضمن الكنيسة أكثر بروزا ومعنى”. فها هو التزامكم هذا يزيد أهمّية، خاصّة وأنّ تيّارا يتنامى هنا وهناك يسعى إلى بناء مسيحيّة بدون كنيسة، فهؤلاء مسيحيّون لم يتنازلوا عن أيّ علاقة بالكنيسة، غير أنّهم لا تحتضنهم جماعة يتمثّلون بها وبالتالي فهم بمثابة زبائن يتجوّلون في سوبرماركت ويختارون ما يروق لهم من البضائع.
لا شكّ أن تطبيق هذا القرار ليس أمرا سهلا، إذ يحتاج إلى تنشئة ملائمة تساعد على الاعتراف بأن يسوع في الكنيسة، جسده السري، وبأنها موضع وسبيل يتحقق من خلالهما حضور المسيح وروحه فيصبح عملهما منظورا وفاعلا في أيامنا الحاضرة.
أمّا الخطوة الأولى لتجديد وجه الكنيسة فهي أن تعيشوا في جماعاتكم ومجموعاتكم الشغَف بالله، هو الذي يجمع الكنيسة في المسيح بقوّة الروح، وأن تعيشوا الأخوّةَ فيما بين جميع المعمَّدين، والاندفاعَ الرسولي في سبيل إعلان البُشرى، والقرارَ بأن تكونوا في خدمة المجتمع، ولاسيّما الفقراء. فبناءً على هذه الخيارات الأساسية، تتمكّن الجماعة المسيحية من التغلّب على تجربة الرضوخ الأعمى، أي بمعزِل عن التمييز الإنجيليّ، لمعايير مجتمع قويّ جدّا ولقيَمه ومواقفه ونهجه، لأن مثل هذا المجتمع، بدل أن يخضع لإغراء الإنجيل، يهدف إلى أن يتحوّل إلى صنَم يُغري المؤمنين. كما وأنّها تتمكّن أيضا من التغلّب على تجربة الخوف، وهو كثيرا ما يدفع المؤمنين إلى أن يتحصّنوا داخل الكنيسة يائسين، بل أن يقفوا موقف المُطالِب أمام المجتمع. وهنالك أيضا تجربة الفرديّة والخمول أو تجربة البحث المُفرِط عن التكريم والميل إلى حبّ المال والخوف من الاندراج في صفوف المهمَّشين.
يجب الاعتناء أيضا بما في الكنيسة من علامات بسيطة وصغيرة تبرز وتُعاش في الحياة اليومية، مثل الترحيب الحارّ والمُعلِن للبُشرى، المعبّر عن الانفتاح المجّاني والإصغاء غير المشروط والرغبة الصادقة في الخدمة؛ وكذلك ميزة النوعيّة الإنسانية والمسيحية للخدمات الصغيرة التي تقدَّم في مجال المساعدة والتنشيط والتطوُّع. هنالك أيضا علامة الاحتفالات الليتورجية البسيطة والفرحة، المنسجمة مع قضايا الناس وأوضاعهم، يشترك فيها الجميع اشتراكا فاعلا؛ وأخيرا علامة الانفتاح الصادق والمبتكر للرفاق في العمل والجامعة والحيّ، مع الانتباه لمشاركتهم في اهتماماتهم وانتظاراتهم وآمالهم وصعوباتهم، باعتماد مواقف تبشّر بالثقة وبالأمانة الواضحة لقيَم التطويبات.
ومن الأهمّية بمكان الجهدُ المبذول في سبيل التعمُّق في معرفة كنيستنا، بحيث تتخطَّوا ما لديكم من صورة منقوصة لها، نتيجةً لتأثير العالم المحيط بكم أو لِما تعلّمتموه في التعليم المسيحي أو من خلال التنشئة بشكل سطحيّ أو ظرفيّ. ففي وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني مثل “نور الأمَم” و”فرح ورجاء” تجدون صورة إيجابية وجذّابة لكنيسة يسوع. لذلك، أدعوكم إلى الاطّلاع عليها والتعمُّق فيها.
في نفس الوقت الذي تتعرّفون فيه إلى سرّ الكنيسة، يجب أن تطّلعوا أيضا عن كثَب على الواقع الكنسي المحيط بكم، أي على كنائسكم المحلّية ورعاياكم والحركات والجمعيّات الشبابية وعلى كل ما تقوم به من نشاطات كأفراد أو جماعات. شاركوا إذن بحماسكم وبما لدي الشباب من إبداع في مشاريعها ومبادراتها، حاملين معكم ميزة الروحانية السالسية للشباب. تعاونوا كي يظهر هذا الواقع الكنسي بوجه أكثر جذبا وأقرب إلى حياة الشباب وأكثر التزاما في خدمتهم.
تذكّروا ما قام به دون بوسكو ليعيش هو بنفسه وليزرع في قلوب الشباب حبّ الكنيسة، وذلك في أيام لم تكن سهلة. كان حسّه الكنسي، قبل كل شيء، خبرة مُعاشة وموقفا ذاتيّا حثّه على المشاركة في عمل الخير وبناء الكنيسة بكلّ ما لديه من قوى وطاقات، فكان يعبّر عن ذلك بشعار بسيط وعمليّ، ثلاثي الأبعاد، وهو: حبّ يسوع المسيح، الحاضر فيما هو مركزي في الكنيسة، أي الإفخارستيّا؛ إكرام مريم العذراء، أمّ الكنيسة وقدوتها؛ الأمانة للحبر الأعظم، خليفة القديس بطرس. هذه العناصر الثلاثة لا تنفصل عن بعض، بل ينير بعضها بعضا، وبنظر دون بوسكو تجسِّد ما على كلّ معمَّد، بحسب دعوته الخاصّة، أن يتحلّى به من التزام ومسؤوليّة في سبيل نشر البُشرى وتغيير المجتمع وفقا للإنجيل.
فخلال هذه السنة، تقدِّم لكم المسيرةُ التحضيرية للأيام العالمية للشبيبة والاحتفال بها فرصةً سانحة للتعاوُن ولتجديد وجه كنيستكم، من خلال المشاركة، مع شبيبة الأقطار كلّها، في السعي لاستعادة مسيرة المجوس الروحية ولالتقاء، على مثالهم، “ماسيّا” جميع الشعوب (راجع رسالة الأب الأقدس بمناسبة الأيام العالمية العشرين للشبيبة). إنّ المجوس مثالكم، لأنّ المسيح قِبلة حياتهم كلّها وبحثهم ومن المسيح ينطلقون انطلاقة جديدة. هنالك نجم يرافقهم في مسيرتهم، ومع أنّ النجوم كانت همّهم اليومي، يُدركون أنّ هذا النجم يتميّز عن سواه من النجوم، ولو تلألأت وبدت جذّابة، كمثل أضواء النجاح والمال والفعّالية والمظاهر الخادعة.
وفي حياتكم أيضا يتلألأ نجم، وهو حضور الله الأبوي والمفعَم بالحبّ. حضوره رقيق، يشجّع حرّيّتكم على تربية النظر والذهن والقلب والإرادة. والكنيسة بدورها تمكّنكم من تحقيق ذلك، إذ تقدّم لكم الوسائل اللازمة وهي: المقارنة بكلمة الله، على أن تتأمّلوا فيها وتحفظوها على مثال مريم العذراء؛ واللقاء الشخصي والجماعي بيسوع في الأسرار، ولاسيّما في الإفخارستيّا؛ والغيرة الرسولية التي تجعلكم رُسُلا بين الشباب. ولكن يجب أيضا أن تسلّموا ذواتكم لمرشد يساعدكم على قراءة مقوِّمات حياتكم وما فيها من أحداث مميَّزة.
تشجّعوا إذن، أيّها الشباب، لأنّكم لستُم وحيدين في مسيرتكم. فالجماعة المسيحية تدلّكم على الطريق، وهناك عدد كبير من الإخوة والأخوات الذين يرافقونكم كأصدقاء ويُشيرون إلى النجم، ولو تلبّدت السماء بالغيوم. عندئذٍ تكتشفون، وقد تُفاجَؤون بذلك، أنّ يسوع نفسه هو الذي جاء من خلال النجم ليبحث عنكم.
لا تخافوا! دعوا يسوع “يقبِض عليكم”. إنّه يحدّق إليكم ويحبّكم. فنظرته إليكم نظرة تفضيل تتضمّن الاختيار والدعوة، وهي أيضا نظرة تدخُل في الأعماق وتصل إلى صميم قلوبكم حيث تقول لكم: “أحببتك حبّا أبديّا. تعال اتبعني”.
أصغوا إلى هذا الصوت واحملوا مسؤوليّاتكم ضمن الكنيسة لينتشر ملكوت الله في العالم. فهكذا كان دون بوسكو يريد أن يكون تلاميذه: مطّلعين على الواقع، أسخياء في اتّخاذ القرارات، أصحاب ديناميّة مميّزة في المبادرات، منفتحين على حاجات المجتمع والكنيسة والرسالة والعالم.
سلّموا ذواتكم لمريم، أمّ المعونة، أمّ الكنيسة وأمّ الرجاء. فمعكم أرفع إليها دعائي:
أيّتها العذراء،
رافقي الشباب دوما بحنانكِ
في عناء الأمانة وفي الأيّام القاتمة،
في وقت التضامُن وفي ساعات العُزلة،
في فرح العيد وفي حزن الدموع الخفيّة،
في الاحتفال بالأسرار وفي الأسئلة بدون جواب.
فأنتِ، أمّ الأمّهات بلا بنين والبنين بلا أمّ،
أنتِ، يا مريم، النهر الجاري بمياه صافية،
اجمعي جداول الحبّ الضائع والمُبهَم والمُهان.
اجمعيها جميعا في قلبكِ الوالديّ وارفعيها إلى ابنكِ يسوع.