التوجيه الرسولي ٢٠٠٤
فرح القداسة
فرح القداسة
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب باسكوال تشافيز نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
بمناسبة مرور 50 عاما على إعلان قداسة دومنيك سافيو، نعرض من جديد على الشبيبة، وبكل اقتناع، فرح القداسة والتزامها، على أنّها ” مقام رفيع وسط الحياة المسيحيّة العاديّة”
(نحو ألفيّة جديدة، 31).
يندرج التوجيه الرسولي لعام 2004 في سياق مسيرة الكنيسة الرعوية التي بلغت ذروتها في سنة اليوبيل الكبير (2000)، حيث احتفلنا بذكرى ألفَي سنة على مولد يسوع. في ختام اليوبيل، عرض قداسة البابا يوحنا بولس الثاني على الكنيسة أن تدخل في مرحلة جديدة من تاريخها بأن تتقدّم إلى العمق (راجع لو 5/4)، ملبّيةً هذه الدعوة الإلهيّة، وهي” تدعونا لكي نتذكّر الماضي معترفين بالجميل ولكي نعيش الحاضر بشغف وننفتح على المستقبل بثقة: “فالمسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب 13/8).
هذه المسيرة الرعويّة للكنيسة يجب أن تتمّ – يقول البابا – في رؤية القداسة، لأنّ القداسة وحدها تعبّر عن تجدّد في العمق. فالتجدّد الذي بدأ يظهر في سنة اليوبيل، بجب أن يستمرّ في الظروف العاديّة.” فالتشديد على القداسة يبقى حاجة رعوية مُلحّة أكثر من أي وقت مضى” (نحو ألفيّة جديدة، 31).
لا يخفى على أحد أن البابا يعرض القداسة بنوع خاص على الشبيبة، ففي رسالته بمناسبة يوم الشبيبة العالمي عام 2000، دعاهم جميعا ليكونوا قديسي الألفية الجديدة: ” يا شباب القارات الخمس، لا تخاقوا بأن تكونوا قديسي الألفية الجديدة! كونوا متأمّلين وأحبّوا الصلاة. ليكن إيمانكم متماسكا. كونوا أسخياء في خدمة الإخوة وأعضاء نشيطين في الكنيسة وفاعلي السلام”.
العائلة السالسية، لكونها عنصرا حيّا وفاعلا في الكنيسة وانطلاقا من اقتناع دون بوسكو بأن رغبات الحبر الأعظم أوامر صريحة له، لم يكن في وسعها أن تتجاهل أو تُهمل هذا التوجيه البابوي الصريح، وهذا هو الأمر منذ سنة اليوبيل. فالتوجيه الرسولي الذي يوجّهه الرئيس العام إلى العائلة السالسية في مطلع كل عام أخذ يستوحي من التوجيهات البابوية المتضمّنة في الرسالة الرسولية “نحو ألفيّة جديدة” التي ترسم مسيرة الكنيسة في هذه المرحلة.
المناسبة لقبول دعوة البابا إلى القداسة ولإيجاد الوسائل لتنفيذها هي مرور 50 عاما على إعلان قداسة دومنيك سافيو، تلميذ دون بوسكو المتميّز، أثمن ثمرة تربيته واليوم شفيع الشباب وقدوتهم وأيضا مرور 100 عام على وفاة الطوباوية لورا فيكونيا، في 22/1/1904.
نقبل إذن هذا التوجيه الرسولي كدعوة يوجّهها إلينا، أفرادا وجماعات وجمعيّات ضمن العائلة السالسية، في آن واحد، كل من الحبر الأعظم والرئيس العام. نتأمّله ونتعمّق فيه، ساعين إلى استخلاص بعض الأفكار العملية، قابلة للتطبيق في ظروف حياتنا العاديّة كمكرّسين أو علمانيين ملتزمين بروح دون بوسكو في حقل التربية، سواء أكانت تربية الأولاد في البيت أو في المدرسة أو الأوراتوريو أو في مؤسسات تربوية أخرى.
سأتحدّث إذن عن القداسة، وهي حُلم الله بالنسبة إلى كل واحد منا؛ عن دورنا، كمربّي الشبيبة على القداسة، على خطى دون بوسكو؛ وأخيرا عن البيئة السالسيّة الحقيقيّة التي يجب أن تكون مَنبِتا للقديسين.
1 – الدعوة العامّة إلى القداسة في الكنيسة:
هذا هو عنوان الفصل الخامس للوثيقة المجمعيّة في الكنيسة: “نور الأمم”، ويدعونا قداسة البابا إلى أن نكتشف من جديد قيمته قائلا: “إذا كان آباء المجمع شدّدوا على هذا الموضوع، فلم يكن ذلك لأجل إضفاء طابع روحي على لاهوت الكنيسة، بل ليُبيّنوا بوضوح الديناميّة الأصليّة والمميّزة” (نحو ألفيّة جديدة، 30). قداسة الكنيسة وأعضائها تنبع من قداسة الله، القدّوس، أي الكلّيّ القداسة.” فالقول بأن الكنيسة مقدّسة يعني إظهار وجهها، وجه عروس المسيح الذي مات لأجلها وبخاصّة لأجل تقديسها (أف 5 /25-26). نعمة القداسة هذه، هذه العطيّة شبه ماديّة، معروضة على كل معمَّد” (المرجع عينه).
يذكّرنا المجمع، في مطلع هذا الفصل، بقول بولس الرسول: ” أجل، إنّ ما يريده الله إنّما هو تقديسكم” (1 تسا 4/3؛ أف 1,4)، بمعنى أنّ القداسة تخصّ جميع المؤمنين بدون استثناء، أي بدون تمييز بين أصحاب السلطة أو المكرّسين أو العلمانيين. القداسة تخصّنا كمسيحيين، ففي الجيل المسيحي الأوّل كان المؤمنون يُدعَون عادةً “القديسين” (رسل، 9/13).
إن الرب يسوع، المعلّم الإلهي ومثال كلّ كمال، فد علّم جميع تلاميذه وكل واحد منهم قداسة الحياة: “كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متى 5/48). فقد أرسل روحه إلى الجميع لكي يُعدّهم في الباطن لأن يُحبّوا الله ويحبّوا أيضا بعضهم بعضا كما أحبّهم يسوع. فتلاميذ المسيح، بحكم المعموديّة، أصبحوا حقّا أبناء الله وشركاء في الطبيعة الإلهيّة، وبالتالي، قديسين حقا. فعليهم إذن أن يحافظوا، بنعمة الله، على هذه القداسة التي نالوها، وأن يكمّلوها بحياتهم. كان بولس الرسول يوصي أهل أفسُس بأن “يعيشوا كما يليق بالقديسين” (أف 5/3)، كما أوصى أهل قولسّي بأن يلبسوا، “كمختارين من الله، قدّيسين أحبّاء، أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة وطول الأناة” (قول 3/12). فواضح إذن للجميع أن الدعوة إلى ملء الحياة المسيحية وكمال المحبّة، موجّهة إلى جميع المؤمنين بالمسيح، أيّا كانت حالهم وكان نهج حياتهم (راجع “نور الأمم”، 40).
القداسة واحدة، ولكن الطرق لممارستها متعدّدة، كما يشهد تاريخ الكنيسة من خلال سيرة القديسين. فكل واحد منهم تقدّم، بدون كلل، على حسب مسؤوليّاته ومواهبه ووسائله الخاصّة، على درب الإيمان الحيّ الذي يلِد الرجاء ويصنع المحبّة. فعيش هذه الفضائل، المعروفة بالفضائل الإلهيّة، محور كل قداسة في جميع الحالات والظروف.
القداسة عطيّة من الله، يقول البابا، ولكن” تنقلب بدورها إلى مُهمّة تتحكّم بكل الحياة المسيحية”، ويستمرّ قائلا: ” التذكير بهذه الحقيقة الأوّليّة، وجعلها أساس البرنامج الرعوي الذي نلتزم به في بدء الألفيّة الجديدة، قد يبدو لأوّل وهلة أمرا غير عمليّ”. ويتساءل: ” هل يمكن برمجة القداسة؟” ويجيب (نحو ألفيّة جديدة، 31). قد نكون، نحن أيضا، من أولئك الذين يطرحون هذا السؤال، بدون أن يكون لدينا جواب. إذا فعلناه، كان ذلك عن جهل، لا أكثر، لأن تعليم دون بوسكو وتوجّهات العائلة السالسيّة جعلت دائما القداسة هدفا أساسيّا للحياة الذاتيّة وللرسالة التربوية، كما سأُبيّن لاحقا. اليوم، الحبر الأعظم بنفسه يعرض هذا البرنامج على الكنيسة ككلّ ويقول إنّ هذا الاختيار “مُثقَِل بالنتائج”: “هذا يعني أننا نعبّر عن قناعة هي: إن كان العماد يُدخل حقّا في قداسة الله بواسطة اتّحادنا بالمسيح وبسُكنى الروح، فلا معنى أن نكتفي بحياة باهتة نعيشها تحت راية أدبيّات الحدّ الأدنى وتديُّن سطحيّ” (المرجع عينه). الحدّ الأدنى يعني الاكتفاء بأقلّ ما يُمكن من الممارسة، بدون أيّ التزام أو حماس، وكأنّ الحياة المسيحيّة واجب مفروض علينا، نتمنّى لو استطعنا أن نتخلّص منه بدون أن ندفع الثَمَن. قد يكون الحدّ الأدنى مكشوفا أحيانا ومستترا أحيانا أخرى: إنّه موجود، ولكن كثيرا ما نسعى إلى تغطيته وإخفائه.
أمام ظاهرة الحدّ الأدنى والتديُّن السطحي، لا معنى أن نتحدّث عن القداسة، لأنّ القداسة هي الحياة المسيحيّة بالذات. يقول البابا أيضا: “عندما نسأل الموعوظ [وهو الإنسان البالغ الذي يتهيّأ لمعموديّة]: “أتريد أن تقبل العماد؟” هذا يعني أنّنا نسأله في ذات الوقت: ” أتريد أن تصبح قديسا؟” وهذا يعني أننا نضع على طريقه الطابع الجذري لعظة الجبل: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل” (متى 5/48). على ألا نفهم ذلك وكأنّ المطلوب حياة غير عاديّة، خاصّة بالنوابغ والأبطال، بعيدة عن واقع حياة أغلبيّة الناس. ولكن، بما انّ طُرُق القداسة هي شخصيّة فلا بُدّ من تربية على القداسة تتكيّف مع ميول كلّ واحد وظروف حياته (المرجع عينه).
2 – التربية على القداسة
أ) القداسة في العائلة السالسيّة: إن كانت القداسة عطيّة من الله، هي أيضا عنصر أساسي للرسالة السالسيّة، علينا إذن أن نجد دواعي مُقنِعة لممارستها ومنهجيّة تسهّل علينا نيلها وتعليمها. لمّا استقبل البابا الرهبان السالزيان المشاركين في المجمع العام الخامس والعشرين، منذ نحو سنتين، قال لهم: ” أيّها السالزيان الأعزاء، كونوا قديسين! لأنّ القداسة، كما تعلمون جيّدا، هي شغلكم الشاغل”. لعلّ قداسة البابا كان أمامه صورة الرهبان المُكبِّين على ألف عمل ونشاط، ومهملين أحيانا ما هو الأهمّ، أي الهدف الأسمى، وهو تربية الشبيبة على القداسة.
القداسة والعائلة السالسيّة تتمشّيان معا منذ البداية. تاريخنا، وإن لم يكن طويلا، حافل بالقدّيسين، وعدد لا بأس به من هؤلاء قدّيسون أحداث، مما يدلّ على أن الموهبة السالسيّة قادرة على أن توجّه نحو القداسة وتحقّقها فعلا في المثابرين حتى النهاية.
قدّيسو العائلة السالسيّة أكثر الشهود تأهيلا على قيمة روحانيتنا لأنّهم عاشوها بطريقة بطوليّة، وشدد كل واحد منهم على نقطة خاصّة، بحسب دعوته الشخصية، لذلك تظهر صورة القداسة السالسيّة مظهر فسيفساء مرصّعة بحجارة ملوّنة مختلفة، موضوعة جنبا إلى جنب لتكوّن وحدة فنّيّة جميلة المنظر أو لحن تتشابك فيه وتتعاقب أنغام الآلات الموسيقية المختلفة، كلّ منها بصوته الخاصّ. وفضلا عن ذلك، يتميّز هؤلاء القديسون بتنوّع أعمارهم وانتمائهم الوطني والثقافي. غير أنهم جميعا يُعيدوننا إلى دون بوسكو، حتّى ولو يبدو لنا أحيانا أنّ بعضهم ابتعد عن النماذج المعروفة والمقبولة عادةً في التقليد السالزياني. يساعدنا الرئيس العام الحالي، دون تشافيز، في اكتشاف وتحديد أبرز ملامح القداسة السالسية في وجوه إخوتنا وأخواتنا. يقول:
– روحانيّتنا تجمع بين العمل الدؤوب والقناعة، بمعنى الزُهد وشيء من التقشّف. وخير مثال لذلك خليفة دون بوسكو الأول، الطوباوي ميخائيل روّا (Michele Rua).
– روحانيّتنا تنبع من المحبّة الراعويّة، أي محبّة الراعي الصالح، وتكشف أُبوّة الله، فتلميذ دون بوسكو يعرف كيف يُحبِّب نفسه إلى الآخرين. وبرز في ذلك خليفة دون بوسكو الثالث، الطوباوي فيليب رينالدي(Filippo Rinaldi) .
– روحانيّتنا تظهر من خلال التواضع الفاعل، المرتكز على المنطِق الإلهي وليس على المنطق البشري. وتميّزت ماريا مازاريللو(Maria Mazzarello) بعيش هذا التواضع
– روحانيّتنا روحانيّة الأمور العاديّة والأعمال اليوميّة، وهي تنطبق على السواء على المكرّسين والعلمانيين، على مثال الطوباوي أَرتيميدي زاتّي(Artemide Zatti) والمكرّم سمعان سروجي(Semaan Srougi)، وهما رهبان إخوة، وعلى مثال خادمة الله ماما مرغريتا(Mamma Margherita)، أمّ دون بوسكو.
– روحانيّتنا يتناغم فيها التأمُّل والعمل، على مثال الطوباويّة الأخت ماريا روميرو مينيسس(Maria Romero Meneses) أو خادم الله، المعاون أتّيليو جيورداني (Attilio Giordani).
– روحانيّتنا روحانيّة العلاقات والروح العائليّة، وكلّ شيء فيها مُفعم بالفرح. أمامنا صورة المكرّم دون تشيماتّي (Don Cimatti)، أوّل مرسَل سالزياني إلى اليابان والذي قيل عنه: “لدى ظهوره، كانت الجدران عينها تبتسم”.
– روحانيّتنا روحانية التوازُن، ومثال ذلك خادم الله دون كوادريو (Don Quadrio)، أستاذ لاهوت، كان معلّم حياة لعدد كبير من السالزيان في الجامعة السالسيّة.
– روحانيّتنا تُظهر أيضا القبول الطوعيّ للألم وتحويله إلى منبع قداسة، كما فعل المكرّمان دون بلترامي (Don Beltrami) ودون تشارتوريسكي (Don Czartoryski) والطوباوي دون فاريارا (Don Variara) والمعاونتان، المكرّمة أليكسَندرينا دا كوستا (Alexandrina da Costa)، القريبة من التطويب وخادمة الله، مدام متيلد سالم (Mathilde Salem) في المرحلة الأخيرة من حياتها.
– وأخيرا وليس آخرا، نذكر العدد الكبير من الشهداء (أكثر من 100)، وفي طليعتهم المطران لويجي فرسيليا والكاهن كالّيستو كارافاريو
(Luigi Versiglia-Callisto Caravario). فاستشهادهم خير دليل على القوّة الكامنة في الروحانية السالسية. (راجع الرسالة: “أيها السالزيان الأعزّاء، كونوا قديسين!” (ACS, n. 379) .
ب) قداستنا، عطيّة وتحدٍّ: يما نفرح بقداسة إخوتنا وأخواتنا الذين بلغوا “القامة التي توافق سَعَة المسيح” (أف 4/13)، نعي أنّ قداستنا لا تزال قيد التحقيق. ولكن يشجّعنا على السير قُدُما قول القديس أوغسطينوس: “إذا استطاع هؤلاء، فلماذا لا أستطيع أنا؟”. نتعلّم من حياتهم كيف نتجاوب مع النعمة الإلهية، لأنّ كل واحد منهم قدوة وحافزا في مسارات الحياة السالسيّة المتعدّدة. ألا نجد في أحد هؤلاء، على الأقلّ، المنتسب إلى نفس المجموعة التي ننتسب إليها (كمكرّسين أو علمانيين، كرجال أو نساء وكشبيبة أيضا) مثالا خاصّا لنا، لأن حياته أو حياتها قريبة جدّا من حياتنا؟
يذكّرنا القديسون بثلاث حقائق مهمّة:
1) قداستنا، بمعنى نيل ملء الخلاص، “وظيفتنا الرئيسيّة”، بغضّ النظر عن الظروف الشخصيّة في الدُنيا. قال يسوع: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه، وفقد نفسه أو خسِرها؟” (لو 9/25)، ويُردف بولس الرسول قائلا: “لو تكلّمت بلُغات الناس والملائكة، لو وُهبَت لي النبوءَة وكنت عالما بجميع الأسرار، … لو فرّقت جميع أموالي وقدّمت جسدي ليُحرَق، ولم تكن لديّ المحبّة، فما يُجديني ذلك نفعا” (1 قور13/1-8). فالمحبّة جوهر القداسة.
عندما يُدين قداسة البابا الحياة الباهتة أو التافهة وأدبّيات الحدّ الأدنى والتديُّن السطحي، يُدين كلّ ما يُبعِدنا عن القداسة أو يُبطئ مسيرتنا نحوها، ولو كنّا نشيطين وناجحين في عملنا، أيّا كان. أما إذا استنارت حياتنا بنور القداسة وتغذّت باشتياقها، فإنّها تملك كلّ شيء، رغم النقائص الموجودة لدى كل واحد.
2) القداسة عطيّة إلهيّة، كما ذكرنا، ويعني ذلك أن الربّ هو صاحب المبادرة دوما وأنّ النتائج في هذا المجال لا تتعلّق بتخطيطنا أو مهارتنا، بل بعمله. طبعا، يطلب الله منّا تجاوبا وتعاونا، ولكن هو وحده الذي يُنمي (1 قور، 3/7)، لأننا، بمعزل عنه، لا نستطيع أن نعمل شيئا (يو 15/5). ليست القداسة مشروعا شخصيّا نُنجزه كما نريد ولمّا نريد؛ إنّما هو مشروع الله بالنسبة إلى كل واحد مّنا، فدورنا أن ننسجم معه يوما بعد يوم في تحقيقه.
3) قداستنا، كتلاميذ دون بوسكو، تتحقق يوميا من خلال عيش شعاره وشعارنا: “أعطني النفوس وخذ الباقي”. مفهوم هذا الشعار غنيّ جدا. العطش إلى النفوس في سبيل الله والتخلّي عن غير النفوس يعني الانفتاح على هذه العطيّة الإلهية والاستعداد لقبولها واعتبارها أهمّ شيء في حياتنا أي الوسيلة الضرورية والطريق الوحيد لبلوغ القداسة. يرسلنا الله إلى الشبيبة وبالتالي ينتظرنا في الشبيبة وتصبح الشبيبة المكان الذي فيه نلتقي بالله. (والمقصود بالشبيبة ليس فقط تلامذة المدارس أو أولاد الأوراتوريو أو غيرهم من الأولاد الذين قد نُعنى بهم، ولكن، وبالدرجة الأولى، أولاد العائلة للمتزوّجين). طلب النفوس، بحسب مفهوم دون بوسكو، يقتضي قبل كل شيء التجرّد، أي التخلّي عن الذات لتتحوّل الحياة إلى عطيّة نبذُلها للآخرين، كما فعل يسوع: “ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذُل نفسه في سبيل أحبّائه” (يو 15/13). ولكن ليس بذل الحياة وكل ما نعاني في سبيل النفوس الهدف؛ إنّما هو وسيلة وطريق لينتشر حبّ الله ولنتقدّس.
3 – العائلة السالسيّة تربّي على القداسة
لا نستطيع، كتلاميذ دون بوسكو، أن نفصل سعينا على بلوغ القداسة الذاتيّة عن سعينا لإيصال الشبيبة إلى القداسة، وهذا الاتّجاه ينسجم تماما مع اقتراح الحبر الأعظم بجعل القداسة أساسا للبرنامج الرعوي الذي تلتزم به الكنيسة. كانت القداسة الذاتية ولا تزال خير شهادة نقدّمها أمام الآخرين، وبخاصة الشبيبة. قوانين السالزيان تُبرز بوضوح أهمّيّة القداسة الذاتية في القيام بالرسالة. تقول: “شهادة هذه القداسة التي تتحقّق في الرسالة السالسيّة تُظهر قيمة التطويبات الفريدة وهي أثمن هديّة يمكننا تقديمها للشباب” (قوانين 25). قوانين الراهبات تصرّح: “نلتزم بأن نحيا لمجد الله في خدمة إيصال الإنجيل إلى الفتيات، ونحن نسير معهنّ على درب القداسة” (قوانين 5). ونظام الحياة الرسوليّة للمعاونين يقول: “هذه المحبّة في المعاون [أي المحبّة الراعويّة التي هي مصدر قداستنا]، إنّما هي تربطه في آن واحد بالله… وبالشباب الواجب تخليصهم بمعزّة خاصّة” (نظام 28)، لأنّ النظام عينه طريق يؤدّي بالمعاون إلى القداسة (نظام 50).
كان دون بوسكو قدّيسا ومعلّم قديسين، فالتربية السالسيّة توجّه نحو القداسة. القناعة الأولى عندنا والتي ننقُلها إلى الشبيبة أنّ القداسة في متناول الجميع، اليوم أكثر من أمس، ولو يبدو لبعضهم غير ذلك. فالمسيحي الذي يحمِل حياته على محمل الجدّ يرى أن القداسة هي الثمرة الطبيعيّة لالتزامه ولمثابرته، بل الحلّ الوحيد، كما صرّح دومنيك سافيو أمام دون بوسكو: ” إنّي أشعر بحاجة مُلِحّة إلى أن أصبح قدّيسا والويل لي، إن لم أصبح قديسا”.
تقدّم التربية السالسية لجميع تلاميذها المسيحيين مسيرة روحيّة تكشف لهم تدريجيّا مشروع حياة مسيحيّة تتميّز ببعض العناصر الخاصّة، كما وتساعدهم على وعيها وعيشها. ذلك أنهم يتعلّمون كيف يُمكنهم أن يعبّروا عن إيمانهم في العالم ويُبرمجوا حياتهم، مرتكزين على بعض القناعات الإيمانية وبعض القيم والمواقف الإنجيليّة التي تشكّل جوهر الروحانيّة السالسيّة. فعرض مثل هذه الروحانية بطريقة لائقة يُثير في الشباب الواعين قُدُرات غير مشكوك فيها. قلب الإنسان لا يميل إلى حياة باهتة تافهة، بل يطمح إلى حياة تتميّز بنوعيّتها، وكأن هذا الطُموح ينبع من صميم طبيعته البشرية. كمؤمنين نقول إنّ الله زرع في قلب الإنسان حنينا إلى القداسة الأصلية التي فقدها بالخطيئة الأولى. وعى ذلك تماما القديس أوغسطينوس الذي قال: “خلقتنا لك، يا رب، وقلبنا قَلِق، ما لم يسترح فيك”. مَن منّا لا يغار أحيانا من القديسين ويتمنّى لو هو أيضا استطاع أن يسير على خُطاهم؟ الشباب، أكثر من سواهم، يستهويهم الأبطال وأعمالهم الخارقة، وكذلك تستهويهم القيم الصعبة، ولو يشعرون بضُعفهم ويختبرونه كل يوم. فدور المربّين أن يقدّموا أمثالا في إمكان الشباب أن يتمثّلوا بها وفي الوقت عينه أن ينمّوا فيهم طموحاتهم الإيجابية ويستثمرونها ويوجّهوها نحو القداسة. لو لا يكفينا مثال دون بوسكو، لنتشبّه بالبابا يوحنّا بولس الثاني، المعروف باقتراحاته الجريئة لمّا يتوجّه إلى الشباب. ففي تورونتو، أثناء يوم الشبيبة العالمي، عام 2002، قال لهم: “لا تنتظروا أن تنموا في السِنّ لتغامروا في درب القداسة. فالقداسة فتيّة دائما، كما انّ شباب الله أبدي”.
ونعود الآن إلى دون بوسكو، مربّي القديسين. في عظة اعتبرها دومنيك سافيو موجَّهة إليه خصّيصا، تكلم دون بوسكو عن القداسة كهدف في متناول الجميع. قال: الله يريد قداستنا؛ القداسة سهلة المنال؛ أُعِدّت في السماء مكافأة كبيرة للذين يصبحون قديسين. تأثّر دومنيك تأثُّرا عميقا وقال لدون بوسكو: “أشعر برغبة قويّة في أن أصير قديسا، ولم أكن أفكّر في أن القداسة سهلة المنال. أمّا الآن، وقد أدركت أن القداسة ممكنة مع الفرح، فقد قرّرت أن أصير قديسا بدون تردّد”. شجّعه دون بوسكو على المُضيّ إلى الأمام وطلب منه أن يلتزم ببعض الأمور البسيطة: الثبات في الفرح؛ المثابرة على القيام بواجبات الصلاة والدرس؛ المشاركة في ألعاب رفاقه؛ الامتناع عن التقشّفات وعن الصلوات الطويلة.
أطاع دومنيك، ولكن، أثناء لقاء لاحق معه، لاحظ دون بوسكو أنّه غير مرتاح، إذ كان يقول: “يا لي من ولد مسكين! أنا ملبَّك للغاية. الرب يقول: إن لم تتقشّفوا، لن تدخلوا السماء، وأنا، منعوني عن التقشُّف. ما عسى أن تكون سمائي؟”. فقال له دون بوسكو: “التقشُّف الذي يطلبه الرب منك هو الطاعة. كن مطيعا وهذا يكفيك”.
4 – مسيرة القداسة عندنا مسيرة تربوية على ضوء الروحانية السالسية.
نستنتج من اختبار دون بوسكو مع دومنيك سافيو أن القداسة بمثابة مسيرة روحية تجري في إطار اختبار روحي يتغذّى بروحانية معيَّنة، لأن هذه الروحانيّة تؤمّن الجوّ وتحدّد الطريق وتوفّر الوسائل. أطلق دون بوسكو في الكنيسة روحانيّة جديدة ومدرسة روحيّة تتمحور حول روحانية شبابيّة، بمعنى أنّها موجّهة إلى الشباب بنوع خاصّ، ولكن تصلُح للجميع. ملامح هذه الروحانية لم تكن واضحة منذ البداية، ولكن تبلورت تدريجيّا من خلال الخبرة والتعمُّق ولدينا اليوم فكرة واضحة عن مكوّناتها. من المفيد جدّا أن نذكر النقاط الرئيسية، لأنها تذكّرنا كيف يجب أن نسير على خطى دون بوسكو وكيف يجب أن نوجّه الآخرين.
أ) قداسة الظروف الحياتيّة العاديّة. هذه الظروف، ولو كانت متواضعة، بل لأنّها متواضعة، تُشكّل الإطار المفضَّل لدى دون بوسكو. وجّه تلاميذه على طريق القداسة البسيطة والصافية والفرحة، طالبا منهم أن يجمعوا في اختبار حياتيّ واحد “الملعب”، “الدرس” والمثابرة على القيام بالواجب.
ما كان يحبّ المواقف الخارقة والاستثنائيّة، بل كان مقتنعا بأن الواجب، إذا ما قُمنا به بمحبّة وفرح، يتضمّن كل ما نحن في حاجة إليه لننمو روحيّا. وهذه القناعة اقتبسها من القديس فرنسيس السالسي الذي، في صفحة جميلة من مؤلّفاته وبأسلوب بسيط ورائع، دعا جميع المسيحيين إلى القداسة. قال: “كما أن الله، عندما خلق الكون، أوصى النباتات بأن تُثمر، كلاّ بحسب جنسه (تكوين 1/11)، كذلك يوصي المسيحيين، وهم نباتات الكنيسة الحيّة، أن يأتوا بثمار التقوى [والتقوى عنده مصطلح بمعنى القداسة]، كل واحد بحسب واقعه ودعوته. على النبيل والحِرَفيّ، وعلى الخادم والأمير، وعلى الأرملة والآنسة والمتزوّجة، أن يمارسوا التقوى بطرق مختلفة. وفضلا عن ذلك، يجب أن تتلاءم ممارسة التقوى مع طاقات كلّ فرد، وطبيعة عمله، وواجبات حاله…”. ويُضيف: “وإنّه لَخطأ، بل بدعة، أن نحاول إقصاء التقوى عن سريّة الجنود ودكّان الحِرَفيّين وبلاط الأمراء، وبيت المتزوّجين” (عن كتاب: المدخل إلى التقوى؛ راجع الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” (1988)، عدد 56). وكأنّ دون بوسكو قال: “إنّه لخطأ أن نحاول إقصاء القداسة عن حياة الشباب”.
ب) حكمة تربوية رفيعة. تميّز دون بوسكو بحسّه التربوي الرفيع، إذ كان يتكيّف مع كل ولد وكان يختار له الكلام المناسب.. تحدّث دومنيك سافيو معه عن القداسة ودون بوسكو عرض له القداسة كهدف ملموس. مع ميشال ماغوني، الولد العفريت والصعب، لم يعرض له القداسة منذ البداية، ولكن قال له: “تعال إلى الأوراتوريو، ففي إمكانك أن تدرس وتلعب وتجد أصحابا”. كذلك نحن؛ علينا أن نجد دائما الكلام المناسب، بحسب قُدرة استيعاب كل ولد. قد نجد أطفالا وشبابا ملتزمين ومتقدّمين في الحياة الروحية، وقد نجد أولادا وشبابا [وقد يكونون الأكثريّة] يبدؤون من الصفر، ليس لديهم أيّ فكرة عن القداسة، وحتّى عن الحياة الروحية. دورنا، كمربّين، أن نعي أنّ الله يدعو الجميع إلى القداسة وأن القداسة ممكنة وتتحقّق عبر جواب فرح، مع العلم أن الأولاد والشباب بحاجة إلى مرافقة مستمرّة وشخصيّة.
التربية على القداسة جوهر التربية السالسيّة، وهي موجودة ضمنا منذ اللحظة الأولى، لمّا ندعو الأولاد لأن يأتوا إلى الأوراتوريو ليلعبوا مع أصحابهم. فهذه الدعوة تتضمّن الدعوة إلى “قداسة الفرح” وإلى حياة مقدّسة. بالطبع، تتحوّل هذه الدعوة الضمنيّة تدريجيا إلى كلام أوضح وصريح، يَظهر بوضوح، كما فعل دون بوسكو، لمّا نُشرِك الأولاد والشباب في مسيرة القداسة ونساعدهم على أن يكونوا هم بالذات أصحاب القرار. فبهذا المعنى، كل عضو في العائلة السالسية، وبخاصة أولئك الذين يتكرّسون للرسالة التربوية المباشرة والدائمة، مثل الرهبان والراهبات، يجب أن يعلم أن طريق قداسته وقداسة تلاميذه طريق واحد. قداستنا لهم ومعهم.
أما مراحل هذه المسيرة فهي:
حضور مريم الوالدي: فهي التي صنعت كلّ شيء في حياة دون بوسكو، على حدّ قوله، ترافق الشباب أيضا في مسيرتهم الإيمانيّة الصعبة. فهي، مربّية يسوع، تساعدهم بحضورها، كما فعلت في قانا الجليل، وتبقى إلى جانبهم مدى الحياة، كما فعلت مع يوحنّا الحبيب.
5 – البيئة السالسيّة بيئة ملائمة للقداسة
قبل بضع سنوات، قال أحد الآباء اليسوعيين لأحد السالزيان: ” قدّمت العناية الإلهيّة إلى العائلة السالسيّة هديّتين كبيرتين، هما دومنيك سافيو ولورا فيكونيا… فاستغربت، أو على الأقلّ كان هذا انطباعي، ان السالزيان لا يعرفونهما ولا يقدّرونهما ولا يستغلّونهما كما يجب…”. قد يكون على حقّ. وسبب ذلك، بحسب رأيي، أن بعض السالزيان يعتقدون نّ البيئة أ أن البيئة التي نما فيها دومنيك سافيو ولورا فيكونيا بعيدة عن البيئة العصريّة، وبالتالي، يستصعبون أن يقدّموا للشبيبة نمط قداسة لا يتناسب، بحسب رأيهم، مع انتظاراتهم وحاجاتهم.
لنصغي مرّة أخرى إلى كلمة البابا، وهذه المرّة كلمته موجّهة خصّيصا إلى العائلة السالسيّة عبر الرسالة التي كتبها عا م 1988، بمناسبة المئويّة الأولى لوفاة دون بوسكو. كتب: ” وفي هذه الرسالة، يسرّني أن أرى في دون بوسكو قدّيسا حقّق خصوصا قداسته الشخصيّة من خلال التزامه التربويّ المتحمّس وقلبه الرسولي فطرح القداسة في الوقت ذاته هدفا لأسلوبه التربويّ، وبدقّة، فإنّ التفاعُل بين “القداسة” و”التربية” هو أبرز مميِّزات شخصيّته. إنّه المربّي القدّيس الذي استوحى من فرنسيس السالسي “القدّيس” نموذجا اقتدى بقداسته، وهو تلميذ “لمرشد روحيّ قدّيس” هو الأب جيوزيبّي كافاسّو، ومن بين تلامذته نشأ “تلميذ قدّيس” هو دومنيك سافيو” (الرسالة “دون بوسكو أبو الشباب”، عدد 5؛ راجع أيضا عدد 16).
إذا رجعنا إلى شخصيّة دون بوسكو وشخصيّة دومنيك سافيو، لاحظنا ترابُطا وثيقا بينهما: معلّم قدّيس وتلميذ قدّيس. هذه الحالة غير نادرة في الكنيسة؛ اللافت هنا أن التلميذ ولد. من خلال أحداث حياتهما نستنتج ان الرب حضّرهما الواحد للأخر. منذ اللقاء الأولّ (2/10/1854)، أدرك دون بوسكو بأنّ دومنيك “قماش جيّد”. فقال دومنيك للحال: “أنا القماش وأنت الخيّاط، فاصنع ثوبا جميلا للربّ”. بهذا الكلام، سلّم ذاته لدون بوسكو كمرشد روحيّ وأخذا يسيران معا نحو الربّ.
في السنوات الثلاث التي أمضاها دومنيك في بيت دون بوسكو، تحوّل من طفل إلى مراهق في بيئة لعبت دورا مهمّا في نموّه الإنساني والروحي. كانت بيئته السابقة، في العائلة أو في الضيعة، سليمة وجيّدة، ولكن قليلة الدوافع، بينما وجد في الأوراتوريو، ولدى دون بوسكو شخصيّا، دوافع قويّة جعلته يركض في طريق القداسة، ولو كان يُحسّ وكأنّه يتقدّم ببُطء. بدأ يلتزم بدِقّة بنظام الأوراتوريو، وهو نظام بسيط، يوجّه التلامذة في القيام بواجباتهم، تحت إشراف دون بوسكو ومعاونيه. كان هذا النظام بمثابة برنامج حياة يتمحور حول ثلاث نقاط: التقوى (أي الحياة الروحيّة والعبادة)، العمل (أي الدرس) والفرح.
أوّل ما كان دون بوسكو يشدّد عليه هو الإيمان الحيّ، وكان يُغذّيه بالممارسات التقويّة، مثل الحضور اليومي للذبيحة الإلهيّة، الاعتراف الدوري والمناولة المتواترة، الخلوات الشهريّة، الإكرام البنويّ لمريم العذراء وما إلى ذلك. الهدف هو الحفاظ على حالة النعمة أو استعادتها، أي الثبات والبقاء في الصداقة مع الربّ.
اهتمام دون بوسكو الثاني هو العمل، أي القيام بالواجبات المدرسيّة بدقّة. والاهتمام الثالث هو الفرح والحبور، ثمار النعمة الإلهيّة. لذلك كان الملعب موقعا إستراتيجيّا، لا يقلّ أهمّيّة عن الكنيسة والصفّ. في هذه البيئة بالذات وبالتفاعُل معها، تعلّم دومنيك قداسة الظروف اليوميّة وبنى، تحت إشراف دون بوسكو الساهر، صرح قداسته. تقدّم بسرعة وقطع شوطا كبيرا في وقت قصير، فكانت أبرز محطّات هذه المسيرة: تكريس الذات لمريم الحبل بلا دنس في 8/12/1854، تأسيس جمعيّة الحبل بلا دنس في 8/6/1856 لممارسة رسالة الصداقة والقدوة الصالحة بين تلامذة الأوراتوريو وفي المرحلة الأخيرة من حياته الانفتاح الكامل على النعمة الإلهيّة حتّى بلوغ مرتبة الفناء في الله تعالى.
الخاتمة:
دون بوسكو، من خلال دومنيك سافيو، يذكّرنا بثلاثة أمور مهمّة: الأولى أن ميزة التربية المسيحيّة هو التربية الكاملة، اي التربية التي تٌعطي البُعد الروحي مكانه، ذلك بأن يُنشّأ الأحداث المسيحيّون “التنشئة التي تمكّنهم من أن يحيَوا حياتهم الخاصّة بحسب الإنسان الجديد، في البرّ والقداسة الحقيقيّين”، ويٌسهموا في نموّ الكنيسة والمجتمع، كلّ واحد يحسب دعوته، ويعملوا على تحويل العالم مسيحيّا (راجع الوثيقة المجمعيّة في التربية المسيحيّة، عدد 2). لا نكتفِ بأن يكون أولادنا أو تلامذتنا متفوّقين في العلم أو الفنّ أو الرياضة. هدفنا الأسمى أن يكونوا على صورة بسوع المسيح، مُخلصين، أنقياء، ثابتي الجأش، مستقيمين، منفتحين ومستعدّين للخدمة بدون مقابل.
ثانية، يعلّمنا دون بوسكو، من خلال دومنيك، أن نثِق في آن واحد بعمل النعمة الإلهيّة في قلوب الأطفال والشباب وبمواهبهم. سنّ الطفولة وبخاصّة سنّ المراهقة مرحلة مميّزة للانفتاح على القيم الروحيّة السامية، وحتّى على القداسة. المراهق مندفع، يحبّ البطولة. فيا ليتنا ننجح في أن نحبّبه مغامرة الالتزام المسيحي والقداسة.
ثالثا وأخيرا، يدعونا دون بوسكو، من خلال دومنيك، إلى استعمال أنسب الوسائل لينمو الشباب روحيّا، وهي: الخيارات التربوية الواضحة، إقامة علاقات قائمة على الثقة والمودّة، خلق جوّ روحي يسوده الإيمان والنعمة، التوجيهات الموافقة لظروف كلّ واحد، التركيز في آن واحد على ضرورة الكفاح لمقاومة الشرّ والحفاظ على الصفاء الباطني، إبراز أهمّيّة القيام بالواجبات اليوميّة، الانفتاح على ممارسة الرسالة، الاندماج في جماعة وتنمية الصداقة الروحيّة… وأساس كلّ ذلك القناعة أن الله يحبّنا ولا يزال، رغم تقلُّبات حياتنا، وأنّه خلقنا للسعادة.
على المربّي أن يتسلّح بالصبر والشجاعة والإبداع… وأن يقتنع بأنّ قداسته الشخصيّة أفضل ضمان لقداسة تلاميذه وأثمن هديّة يقدّمها لهم. دون تشافيز، بطرح موضوع القداسة في التوجيه الرسولي لهذا العام الجديد، لا يريد أن نضِلّ في الزواريب الضيّقة، بل أن نسير على أوتوستراد واسعة، مفتوحة الآفاق، يّضيئها نور دون بوسكو، المربّي القديس، ونور دمنيك سافيو، تلميذه القديس.
الرئيس العام الأب باسكوال تشافيز نقلها للعربية الأب فيكتور بوتسو
===========================================
المراجع:
Don Pascual CHAVEZ VILLANUEVA, “Cari salesiani, siate santi”, in ACS, 379, pp. 3-37.
Joseph AUBRY, Dominique Savio conduit à la sainteté par don Bosco, in AVEC DON BOSCO VERS L’AN 2000, Roma, 1990, pp. 463-496.
Rilanciare la santità per i giovani d’oggi, in R. TONELLI, Una pastorale giovanile alle prese con problemi nuovi?, in NPG, Nov. 2003, pp. 26-31.