دون بوسكو يتحدث من روما!
قبل انتقاله إلى السماء بأربع سنوات..
قبل انتقاله إلى السماء بأربع سنوات..
سالزيانيات
القديس يوحنا بوسكو
الشبيبة الثانوية والجامعية
أبنائي الأعزاء بالمسيح…
أفكّر دائمًا بكم من قريب أو من بعيد. وليس لي إلاّ رغبة واحدة، إلاّ أن أراكم سعداء في هذا العالم وفي الأبدية. وقد حتّمت عليَّ هذه الرغبة وهذه النيّة أن أنصّ لكم هذه الرسالة. إذ يعزّ عليّ يا أبنائي الأعزاء أن أكون بعيدا عنكم، وأن لا أراكم ولا أسمعكم يسبّب لي غمّاً لا يمكنكم تصوُّره. لهذا السبب أحببتُ أن أكتب لكم هذه الأسطر منذ أسبوع، لكن مشاغل ملحّة حالت دون ذلك، ومع أن أياماً معدودة تفصلني عن العودة إليكم، أردتُ أن أستبق وجودي بينكم، أقلّه بالمراسلة طالما يتعذّر عليّ القيام بذلك شخصياً. هذا كلام شخص يحبّكم بحنان، من خلال المسيح، ويشعر بواجب التحدّث إليكم بحرية، حديث الأب.. وأنتم تسمحون لي بهذا! أليس كذلك؟ وتستمعون إليَّ بانتباه وتطبّقون كل ما سأقوله لكم.
كنت أقول إنّكم الفكرة الوحيدة والملحّة التي تشغلني. بناءً عليه، كنت، ذات مساء من الأمسيات الأخيرة، قد أويتُ إلى غرفتي، وقبل أن أخلُد للنوم، بدأتُ أتلو الصلوات التي لقّنتْني إيّاها أمّي الطيبة، حين داهمني النعاس أو حملني الشرود – لست أدري – فتخيّلتُ أني رأيت اثنين من شبيبة “المصلّى” القدامى يتقدّمان مني.
واقترب أحدهما مني وحيّاني بمودّة قائلا لي:
دون بوسكو، أتعرفني؟
طبعًا أعرفك! أجبتُه.
وتذكرني أيضا؟ تابع الرجل.
طبعًا، أنت وباقي رفاقك جميعاً. أنت “فالْفْريه”، وكنتَ في المصلّى قبل سنة 1870.
قُلْ، تابع الرجل، أتريد أن ترى الصبية الذين كانوا في المصلّى معي؟
طبعًا، أظهِرْهم لي! – أجبتُه – فرؤيتُهم تحمل إليَّ سروراً عظيماً.
عند ذلك أظهر لي “فالْفْريه” الصبية، بوجوههم وقاماتهم وسنّهم في ذلك الوقت. فخُيِّلَ لي، أنني في المصلّى أثناء اللعب، بكل ما فيه حياة وحركة وفرح، حسبما بدا لي، فمَن يلعبون “لعبة الضفدعة” وهناك “لعبة الحواجز” والكرة. هنا تحلّقتْ مجموعة من الصبية مشدودي الانتباه إلى أحد الكهنة يخبرهم قصة. وفي موضع آخر كان أحد الإكليريكيين يلعب مع مجموعة أخرى لعبة “الحمار الطائر” و”لعبة المهن” وحولهم الصبية يهزَجون بفرح، فكنتَ تسمع، أينما كان، الأناشيد والضحكات وكنتَ تلاحظ الألفة والثقة بينهم وبين رؤسائهم.
حينئذ قال لي ” فالْفْريه”:
انظر! ألا تلاحظ أن الألفة تُفْرِز المحبّة والمحبة تُوَلِّد الثقة؟ وهذا ما يشرح القلوب، إذ يَعْرِض الصبية كل أمورهم أمام معلّميهم والمشرفين عليهم ورؤسائهم، دون خوف، فيصبحون أكثر صراحة في الاعتراف وخارجه، ويرضخون بلُيونة لكافة أوامر مَن يتأكّدون مِن محبّته دون تحفُّظ.
عند ذلك، اقترب مني تلميذي القديم الثاني وكانت لحيته بيضاء كلها وقال لي:
أتريد، يا دون بوسكو، أن تعرف وترى الموجودين الآن في المصلّى؟
كان هذا جوزيف بوتْسِتّي.
نعم، قلت له، لأنني لم أَرَهم منذ شهر تقريبًا!
فأشار بإصبعه إليهم، فرأيتُ المصلّى وشاهدتُكم جميعًا أثناء اللعب. ولكني لم أعُدْ أسمع لا أهازيج الفرح ولا الأناشيد، وغابتْ عن نظري حركة وحياة المشهد السابق.
وقرأت في حركات ووجوه الكثير من الشبان ضجَراً وعَياءً وسخطًا وريبة أوجَعت قلبي. صحيح أني رأيت كثيرين غيرهم يركضون، يلعبون ويقومون بحركات لا مبالية سعيدة. ولكني شاهدتُ أيضا البعض، وكان عددهم كبيرًا، معزولين، يستندون إلى الأعمدة عُرضة لتخيُّلات مقلقة والبعض الآخر فوق السلالم وفي الممرات أو على الشرفات من جهة الحديقة للانسحاب من اللعب الجماعي. فيما تَسكّع البعض الآخر جماعات جماعات، وهم يتحدّثون همسًا ويَرمون حولهم نظرات سيئة ومريبة: أحيانا كانوا يبتسمون ابتسامة مُرفَقة بغمزات تحمل ليس فقط على الظن، بل على الاعتقاد أن القديس “لويس غونزاغا” كان احمرّ لو تواجد بصحبتهم. حتى الذين كانوا يلعبون، بدت على العديد منهم سيماء اللامبالاة واضحة لتشير إلى عدم تمتُّعهم باللهو.
أرأيت صبيتك؟ سألني تلميذي القديم
رأيتهم! أجبتُه وسط تنهُّداتي.
الفرق واضح بيننا وبينهم! قال.
– من هنا ينتج فتور الكثيرين في الاقتراب من الأسرار المقدسة، وإهمالهم لممارسة طقوس الصلاة في الكنيسة وخارجها، وقلة حماستهم للبقاء في مكان تغمرهم فيه العناية الإلهية بنِعَم عديدة، جسدية، ونفسية وعقلية. ولهذا السبب أيضًا لا يتبع العديد منهم دعواتهم، ويُنكِرون فضل رؤسائهم ويتذمّرون ويعانون الأزمات والتبعات المحزنة الناتجة عن هذا الوضع كافة.
لقد فهمت وأدركت! أجبته، ولكن كيف السبيل لإعادة الحياة إلى صبيتي الأعزاء، فيسترجعون نشاطهم السابق وحبورهم وحيويتهم المفرطة؟
بالمحبة! قال. بالمحبة! …
بالمحبة؟ ولكن ألا يشعر صبيتي أنهم محبوبون كفاية؟ أنت تعرف كم أحبّهم. وتعرف أيضًا ما تحمّلتُه وما عانيتُه خلال أربعين سنة، وما زلتُ أعانيه وأتحمّله حتى الآن من المشقات والمذلاّت والعقبات والاضطهادات لأمنحهم لُقمة العيش، السكن والأساتذة، ولأؤمّن لهم بصورة خاصة سلام النفس. لقد قمت بكل ما أعرف، وما أستطيع لأجلهم، فَهُمْ شغف حياتي.
أنا ما عنيتُك بكلامي!
ومن تعني إذًا؟ الذين يحلّون محلّي؟ من مدراء ومدبّرين وأساتذة ومعاونين؟ ألا ترى أنهم يستهلكون سنين شبابهم في سبيل من أوكلت العناية الإلهية أمر الاهتمام بهم لهم؟
أعرف… وأرى ما تقول، ولكن ذلك ليس كافيًا، يلزمهم الأفضل.
وما الأفضل إذًا؟
أن لا يكتفوا بمحبّة الشبيبة فقط، بل أن يعرف هؤلاء أنهم محبوبون أيضًا.
ولكن ألا يلاحظون… ألا يفهمون… ألا يرون أننا بفعل الحب فقط نجهد أنفسنا لأجلهم؟
كلا … لا يلاحظون… وأكرّر أن ذلك لا يكفي.
ماذا يبغون إذا ؟
أن يكونوا محبوبين في ما يطيب لهم وأن نتكيّف مع ذوقهم الفتي، فيكتشفوا الحب من خلال أمور تستهويهم عادة قط، مثل النظام، والدراسة وقهر الذات ويتوصّلوا إلى القيام بها بحبّ وحماس.
أفصِح أكثر عمّا يجول في فكرك.
أنظر الصبية في فترة اللعب.
فنظرت وعلَّقت: ما التمييز الذي يجب أن ألاحظه؟
منذ سنين وأنت تربي ولم تفهم بعد؟ أنظر جيدًا أين إخوتنا السالزيان؟
فنظرت ورأيت أن قلّة من الكهنة والأكليركيين تختلط بالأولاد وأن مجموعة أقلّ تشاركهم ألعابهم وأن الرؤساء لم يعودوا قلب فترة اللعب النابض. وأن أغلبيتهم يتنـزّهون سوية ويتحدثّون غير مبالين بما يفعله التلاميذ، بينما وقف بعضهم يتأمّلون اللعب دون الاهتمام بالصبية، والبعض الآخر يراقب من بعيد دون التدخّل لتنبيه مرتكبي الهفوات، وإذا ما قام أحدهم بالتنبيه، وكان ذلك نادرًا، فهو يقوم بذلك بالتهديد. وكان السالزيان يريدون الانضمام لمجموعات الفتيان، ولكني لاحظت أن هؤلاء يبذلون عناية لتجنّب معلّميهم ورؤسائهم.
حينئذ أردف صديقي متابعا:
ألم تكن فيما مضى، في المصلّى، دومًا وسط الفتيان، خصوصًا في فترات اللعب؟ أتذكر تلك الأيام الجميلة؟ كنّا في نعيم، وكانت فترة نذكرها دومًا بتأثّر لأنّ الحنان كان يحلّ محلّ النظام فيها ولم نكن نُخفي عنك أي شيء.
طبعًا! وكان آنذاك كل شيء بهجاً بالنسبة لي، فصبيتي يندفعون للاقتراب مني والتحدّث معي، ويتعطّشون لسماع نصائحي وتطبيقها.
حسنًا، ولكن إذا تعذّر عليك أنت هذا الأمر، لماذا لا يقتدي بك أفراد جمعيتك السالزيان؟ لِمَ لا تلحّ ولا تفرض عليهم أن يسلكوا مع الشبيبة، كما كنت تسلك أنت معهم فيما مضى؟
أنني أكلّمهم وأُفْرِط في الكلام ويبحُّ صوتي ولكن الكثيرين منهم لا يجدون في أنفسهم، للأسف، القدرة على احتمال العناء الذي كنا نحتمله سابقًا. ويفقدون الكثير بتجاهلهم القليل، أي مضاعفة العناء لأنهم لو أحبّوا ما يروق الصبية وأحبّ هؤلاء ما يروق لرؤسائهم لهانت الأعباء.
وسبب التغيير الحالي في المصلّى هو أن العديد من الصبية لا يثقون برؤسائهم. فإذا كانت قلوبهم، فيما مضى، مفتوحة على مصراعيها، وكان يحبّهم الأولاد ويطيعونهم دون تردّد، فاليوم يعتبر الرؤساء رؤساء وليس آباء وأصدقاء وأشقّاء، وغدًا يخافونهم ويحبّونهم قليلاً. فإذا أردنا أن نتخطّى حاجز الريبة المشؤوم ونستبدله بالثقة الودودة، هكذا تسير الطاعة التلميذ كما تسير الأمّ طفلها الصغير. ويسود عند ذلك السلام والفرح في المصلّى.
ولكن، كيف السبيل لكسر هذا الحاجز؟
بمشاركة الشبيبة خصوصا أثناء اللعب. فبدونها لا إثبات للعاطفة ولا نشوء للثقة، لأن من يريد أن يكون محبوبًا عليه أن يُظهر الحبّ ويتشبّه بيسوع المسيح، رائد الألفة، الذي كان صغيرا مع الصغار وحمل ضعفنا. والأستاذ الذي يبقى وراء مكتبه ليس إلا أستاذًا: أمّا إذا قاسم الشبان أوقات لهوهم فإنّه يغدو بمثابة أخ لهم.
وليس الذي يبشّر من على المنبر إلا فردًا يقوم بواجبه لا أكثر ولا أقلّ، أمّا إذا قال كلمة في الملعب فهي كلمة صديق. وكم من الارتدادات انطلقت من كلمات لاقت وقعها في أذن أحد الصبية أثناء لهوه! من يعرف أنّه محبوب يحبّ، ومن كان محبوبًا يحصل على كل ما يريده من الشباب. ذلك أن هذه الثقة تخلق تيارا بين الشبان ورؤسائهم. فيفتحون قلوبهم لهم ويعبّرون عما ينقصهم ويكشفون أخطاءهم. ويسمح هذا الحبّ للرؤساء باحتمال المشقات والهموم ونكران الجميل والمعاكسات والنقائص وتسرُّع الشبان. فيسوع المسيح لم يحطّم القصبة المرضوضة ولم يطفئ الفتيل المدخّن. فليكن مثالكم الأعلى وعندئذ لن نرى أبدًا من يعمل بغرور ولا من يعاقب ليثأر لكرامته المهدورة، ولا من يتغيّب عن حلقة الإشراف بسبب غيرته المشكّكة من مسؤول آخر يحاول جهده ليكون محبوبًا ومحترمًا من الصبية بمعزل عن بقية الرؤساء كافة. فينتقد الآخرين ولا يكسب، من جراء ذلك، إلا ازدراءً وتزلّفًا خدّاعًا.
ولم نعد نرى من يترك قلبه يُفْتَن بولد ويُهْمِل بقية الأولاد في سبيل كسب مودّته، ولا من يتهاون في واجب الإشراف الدقيق، حبّا براحته ولا من يمتنع عن تحذير من يجب تحذيره بسبب عدم احترامه له. ثم إن مثل هذا الحب الحقيقي، هو أداة البحث عن تمجيد الله وخلاص النفوس. ذلك أن الأمور تسوء حين يضعف الحبّ. ويسعى الجميع لإحلال جفاف النظام محلّ المحبّة. ويتجاهل الرؤساء التقيّد بالقواعد التربوية التي علّمهم إيّاها دون بوسكو. ويصار إلى إحلال أسلوب أقلّ كلفة وأكثر سرعة، قائم على إصدار القوانين والأوامر محلّ الأسلوب القائم على تدارك حصول المخالفة بتيقّظ وحبّ. ثم إن القوانين المدعومة بالعقوبات تُثير أحقادًا وتسبّب سخطًا، كما تؤدّي إلى كره السلطة وإلى اضطرابات بالغة الخطورة في حال التقاعس في تطبيقها.
هذا ما يحصل، بالطبع، حين تنعدم الألفة. فإذا أردنا أن يستعيد المصلّى حبوره السابق يجب أن يبقى الأسلوب القديم ساري المفعول وأن يكون المسؤول كلاً للكل، وأن يكون دائم الاستعداد للإصغاء إلى مشاكل وشكاوى الصبية، وأن يكون العين الساهرة التي تراقب سلوكهم بصورة أبوية، والقلب الذي يسعى في سبيل المنفعة الروحية والزمنية لأولئك الذين أوكلت إليه العناية الإلهية أمر الاهتمام بهم.
عندئذ لم تعُدْ القلوب مُقْفَلة وتختفي من الوجود بعض الحلقات الخطيرة. ذلك أن الخلاعة وحدها يجب أن تثير قسوة المسؤولين. لذلك يفضّل، عندها، أن نخاطر بإبعاد غير المذنبين عن الدار بدل أن نتمسّك بذوي السلوك المشين. هنا يجدر بالمشرفين أن يعتبروا أن واجب الإفصاح أمام الرؤساء عن كل ما يَعُدُّونه مُسيئًا إلى الله إلى حدّ ما، من أهمّ واجباتهم.
حينئذ طرحت عليه هذا السؤال التالي: ما هي الوسيلة التي تجعل مثل هذه الألفة سائدة؟ وهذا الحبّ وهذه الثقة؟
بالتقيّد الصحيح بنظام البيت.
فقط؟!… أما من وسيلة أخرى؟
ألا تعلم أن الوجه الطيّب يشكّل أفضل طبق للعشاء؟
وفيما كان تلميذي القديم يتابع كلامه رحت أتابع مراقبتي لفترة اللعب بانزعاج عميق وأحسست أنني تحت وطأة عياء شديد، ووصل بي الإرهاق إلى درجة لم أعد أقدر على مقاومته فارتعشت وعدتُ إلى وعي. ووجدت نفسي واقفا قرب سريري. ورجلاي متورّمتان وتؤلماني لدرجة لم أعد أتمكّن معهما من الوقوف ولأن الوقت كان متأخّرًا استلقيت في سريري، عازما على كتابة هذه الأسطر إلى أولادي الأعزاء. وتمنّيتُ أن لا تعاودني مثل هذه الأحلام لأنها تؤلمني كثيرًا.
في اليوم التالي، كنت منهوكا، وانتظرت بفارغ الصبر حلول الساعة التي أستطيع فيها أن آخذ قسطًا من الراحة مساء. فلم أكد استلقي حتى عاودني الحلم. وإذا قبالتي الملعب وشبيبة اليوم في المصلّى وتلميذي القديم نفسه فسألته: سأنقل كل ما قلتَه لي إلى أبنائي السالسيين، ولكن ماذا يجب أن أقول لصبيتي في المصلّى؟ فأجابني:
أن يقدّروا مدى تفاني رؤسائهم وأساتذتهم والمشرفين عليهم الذين يتعبون ويعملون بحبّ لأجلهم، لأنهم ما فرضوا على أنفسهم مثل هذه التضحيات لولا سعيهم لمنفعتهم. وليتذكّروا دومًا أنّ التواضع هو منبع كل طمأنينة. وليتعلموا كيفية احتمال أخطاء الآخرين، لأن الكمال ليس في هذا العالم بل في النعيم فقط، وليتوقّفوا عن نقدهم لأن النقد يجمّد القلوب، وليتعلّموا فوق كل ذلك، أن يعيشوا بنعمة الله المقدّسة، لأن من لا يحيا بسلام مع الله لا يعيش سلامًا داخليًّا ولا سلامًا مع الآخرين.
بناءً عليه، تريد أن تقول لي أن البعض من صبيتي ليسوا في سلام مع الله؟
هذا، كما تعلم، سبب رئيسي من أسباب تفشّي التبّرم المعروفة، التي يجب أن تُعالَج ولا مجال للتطرُّق إليها الآن. في الواقع، لا يداخل الشك إلا من كانت له أسرار يحتفظ بها ويخشى أن تُذاع، لعلمه أنها قد تجلب العار له وتُفقده اعتباره. وإذا لم يكن قلبه، في الوقت نفسه، في سلام مع الله، يبقى في حالة همّ وغمّ وقلق، ويجد صعوبة في الامتثال ويغضب لأدنى شيء، ويرافقه انطباع دائم بأن كل شيء سيّء، ولأنّه لا يعيش الحبّ في داخله يقدّر أن رؤساءه لا يحبّونه.
ولكن، يا صديقي، ألا تلاحظ تضاعف عدد الاعترافات والمناولات داخل المصلّى؟
صحيح أنهم يعترفون كثيرًا، ولكن ما ينقص اعترافات عدد غفير من الأولاد هو العزم الصادق، لأنهم يعترفون ليعودوا دوما إلى ارتكاب الهفوات نفسها، واستغلال الفرص نفسها واكتساب العادات السيئة عينها والقيام بالمخالفات ذاتها ونفس الإهمال لواجباتهم. ويتابعون، خلال أشهر متوالية، إذا لم نقُلْ سنوات، نفس المَسرى ويسيرون وفقه حتى الصف الأخير.
فتلك اعترافات لا توازي شيئا أو تساوي القليل ولا تحمل السلام. وإذا ما دعا الخالق أحد الصبية للمثول أمامه، يشعر بإحراج بسبب دِقَّة وضعه.
وهناك كثير من هؤلاء في المصلّى؟
لا! إنهم قليلون، قياسا مع عدد أعضاء البيت الكُثُر… أنظر!
وأشار إليهم.
فنظرتُ ورأيت هؤلاء الصبية واحدًا تلو الآخر. كان عددهم ضئيلا ولكني لاحظت عندهم أمورا آلمتني في العمق، لا أريد أن أذكرها هنا، ولكني أنوي إطلاع المعنيين عليها لدى عودتي إليكم.
أكتفي الآن بأن أقول لكم: حان الوقت للصلاة واتخاذ القرارات الحازمة، والتصميم لا بالكلام بل بالأفعال، وإثبات أن أمثال “كومولّو”، و “دومنيك سافيو” و”ساكارْدي” لم يغيبوا عنا.
وطرحت على صديقي سؤالا أخيرًا: ألم يعد لديك ما تقوله لي؟
بلى، بشّر الجميع، كباراً وصغاراً، بألّا ينسوا أبدا أنهم أبناء مريم أمّ المعونة.
وأنها هي التي جمعتهم هنا لتجنّبهم مخاطر العالم، وليحبّوا بعضهم محبّة أخوية، وينشروا، من خلال سلوكهم الحسن مجد الله ومجدها، وأنها وحدها التي تضمن لهم الخبز ووسائل الدراسة بواسطة نِعَم خارقة ولا متناهية. وليتذكّروا أن عيدها بات قريبًا فيسقط بمعونتها حاجز الريبة الذي توصّل الشيطان إلى بنائه بين الصبية ورؤسائهم والذي يستغلّه بمهارة لهدم بعض النفوس.
أنتوصّل يوما لإلغاء هذا الحاجز؟
نعم… بالطبع، شرط أن يكون الكبار والصغار متأهّبين لتحمُّل بعض التقشفات الصغيرة حبًّا بمريم، وأن يطبّقوا ما قلتُه لك.
رغم ذلك، لم أتوقّف عن النظر إلى أولادي وشعرت، لدى رؤيتي أولئك الذين يسيرون نحو خرابهم المحتوم بانقباض في الصدر جعلني أستفيق. وأريد أن أخبركم أشياء كثيرة وبالغة الأهمية كنت شاهدًا عليها، ولكن لا الوقت ولا اللياقات تسمح لي بذلك…
بالنتيجة: أتعرفون ما الذي ينتظره منكم هذا العجوز المسكين الذي أفنى حياته في سبيل صبيته الأعزاء؟ لا لسبب إلا لتنتعش من جديد – مع مراعاة الظروف – الأيام السعيدة التي كانت تغمر المصلّى القديم، أيام الحنان والثقة المسيحية المتبادلة بين الصبية والرؤساء، أيام التفهُّم والدعم المتبادل من خلال محبّة يسوع المسيح، أيام القلوب المنفتحة ببساطة وبراءة كلّية، أيام المحبّة والفرح الحقيقي المخيّم على الجميع.
وكم أنا بحاجة لأن تخفّفوا عني بوعدكم لي وأملي بأن تفعلوا كل ما أرجوه لخير نفوسكم. فأنتم لا تقدّرون كما يجب مدى السعادة التي أشعر بها لكوني استقبلكم يوما في المصلّى ولكني أؤكّد لكم، أمام الله الأمر التالي: يكفي أن ينضمّ صبي إلى بيت من البيوت السالسية حتى تشمله العذراء الكلية القداسة برعايتها المميّزة. فلنتّفق إذا جميعًا على جعل محبّة من يأمرون ومحبّة من يجب عليهم الامتثال للأوامر، منبثقة من روح القديس فرنسيس السالسي السائدة بينكم. فيا أولادي الأعزّاء، يقترب الوقت الذي يجب عليَّ فيه أن أفترق عنكم وأرحل نحو الأبدية. لهذا السبب أتحرّق على ترككم، يا رهباني ويا كهنتي ويا صبيتي الأعزاء، على درب الربّ حيث يريدكم هو أن تكونوا. ويرسل لكم قداسة البابا الذي قابلته نهار الجمعة في 9 أيار، بركته النابعة من القلب، ويزوّدكم بها في سبيل هذا الهدف.
وسأكون، إن شاء الله، بينكم يوم عيد مريم أم المعونة. وسنقف قبالة صورتها، هي التي تحبّنا كثيراً، كما أشدّد على أن يجري الاحتفال بهذا العيد العظيم بأُبّهة وأن يخلق “دون لازيرو” و”دون مارْكيزيو” أجواء الفرح حتى داخل غرفة الطعام. فيكون عيد مريم أمّ المعونة تمهيدًا للعيد الأبدي الذي سنحتفل به جميعا يومًا في النعيم.
يوحنا بوسكو الكاهن الذي يحبكم كثيراً بالمسيح.
This post is also available in: الإنجليزية الإيطالية